العدد الخامس - صيف 2008م

   
 

دراسات
 

 من إشكاليات النص (الخلط بين التراث الشعبي والتاريخ)  الجزء الأول (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

 

صبري الحيقي
كاتب وتشكيلي من اليمن.

لاحظتُ الإشكالية الأولى من خلال أطروحتين: الأولى جاءت في كتاب الدكتور محمد رياض وتار «توظيف التراث في الرواية العربية» (منشورات اتحاد الكتاب العرب - دمشق 2002)، حيث أفرد للتاريخ فصلاً كاملاً ناقش فيه من وجهة نظره توظيف التاريخ كتراث في النص الروائي. وأتحفظ على كثير من مما تناوله الكتاب.

  والثانية في أطروحة الدكتوراه للفنان المعروف أشرف زكي، المدرس في أكاديمية الفنون، والتي تتعلق أيضا بـ»توظيف التراث في المسرح» (أكاديمية الفنون)، وكنت قد شهدت مناقشتها، حيث تساءل الدكتور سمير سرحان، الذي ناقش الأطروحة قبل وفاته بأكثر من عام، عن الفرق بين النص التاريخي والنص التراثي؛ معترضاً على إدخال نص «مأساة الحلاج» لـصلاح عبد الصبور، كنص تاريخي، في موضوع توظيف التراث. ولكن المشرف على الباحث، وهو الدكتور أحمد مرسي، المتخصص في التراث الشعبي، برر قائلاً إن التاريخ جزء من التراث. وهذا الموضوع كنت حينها أعده لرسالتي في تقنيات التأليف الدرامي، وكان الفصل الأول فيها هو «مصادر النص الدرامي»، والتاريخ هو أول هذه المصادر في موضوعي. وتبرير الدكتور أحمد مرسي لم يكن مقنعاً؛ لسبب بسيط، ذلك لأن مسألة التفريق بين النص والتاريخ مسألة ليست جديدة، وكان «أرسطو» هو أول من صنف هذه القضية برؤية فلسفية عميقة. لا أدري كيف غابت عن باحثين كبار أمثال الدكتور أحمد مرسي والدكتورة سميرة محسن التي شاركت الدكتور مرسي في الإشراف على أشرف زكي، إضافة إلى الدكتور محمد رياض.

 أما إشكالية مصادر النص فقد وجدتها في كتاب «البعد المصدري لفقه النصوص» للدكتور صالح قادر الزنكي، الصادر ضمن سلسلة «كتاب الأمة» – قطر 2006. وهذا كتاب يحتاج لوقفة مستقلة، بحكم أنه تناول النص القرآني بشكل أرى أنه قد أخفق تماماً في استيعاب مشكلة الفرق بين النص الإبداعي والنص القرآني، رغم تخصصه في مجال الفقه، واعتمد على نقل منهج جاكبسون بشكل تسطيحي ساذج، وامتلأ كتابه بالحشو. فمثلاً يزعم هذا الكتاب أن «النص الشرعي، كغيره من النصوص، له أربعة مكونات، وهذه المكونات أمر لا بد منه في كل رسالة اتصالية... وهذه المكونات:

 المكون الأول: لغة النص، أو الرسالة الاتصالية... وهي اللغة العربية...

 المكون الثاني: مصدر النص المُخَاطِبُ (المتكلم)...

 المكون الثالث: مضمون النص ومحتواه...

 المكون الرابع: الجهة المستهدفة وراء النص... استهدف الإنسان إجمالاً...»(1).

 ونرى أولاً: من المنهجية العلمية أن يوضح الكاتب مصدر تصنيفه للمكونات الأربعة لأي نص. وتصنيفه هذا مستوحى من أفكار «جاكبسون». وقد جاء في أكثر من مرجع إشارات إلى نظرية «جاكبسون»، لم يشر إليها «الزنكي» مطلقاً(2)، وهي إشارات حول الوظيفة الشعرية، والتي يحدد فيها ستة عناصر، تبدأ بالمرسل، ثم الرسالة الاتصالية، وأخيراً المستقبل، وهو ما سماه الكاتب الجهة المستهدفة وراء النص؛ مع العلم أن نظرية «جاكبسون» لها خصوصيات لم يتعرض لها الكاتب، وهي ليست موضوع بحثنا هنا على كل حال.

  ثانياً: النص القرآني ليس كغيره من النصوص، لأن هناك نصاً إبداعياً، وهناك نصاً تاريخياً، وهناك نصاً قرآنياً. ولكل نص من هذه النصوص خصوصيته ومميزاته وتصنيفه... وعلى كلٍّ، هذا موضوع آخر أفردت له تعقيباً مستقلاً أرجو أن أتمكن من نشره قريباً.

 وقد اجتهدت في محاولة منهجة وتوصيف مصادر النص، ومحاولة التفريق بين النص التاريخي والنص الإبداعي. وأفرد هذا الموضوع للمبحث الخاص بالتاريخ، من خلال دراسة التاريخ في النص الدرامي اليمني. وأرجو أن يشكل هذا الجهد نوعاً من التفكير بصوت عال في قضايا لا بد من السير إليها في طريق صحيح.

مدخل

 لكل نص إبداعي مصادره. ومن مصادر النص: الواقع والتاريخ والحكايات الشعبية والنصوص الأدبية السابقة؛ بحكم أن من بين النصوص الدرامية، الواقعة في زمن هذا البحث، نصاً يمكن اعتبار مصدره نصاً روائياً آخر. هذه المصادر هي التي وجد الباحث أنها تتعلق بدراسته وبحثه هذا.

 وعن مصادر الأدب، يقول الدكتور محمد مندور: "الواقع أن التجربة البشرية التي يتطلبها الأدب الإنساني الرفيع لا تقتصر على التجربة الشخصية للأدب، وإنما تشمل:

 1- التجربة الشخصية... 2- التجارب التاريخية... 3- التجارب الأسطورية... 4-التجربة الاجتماعية... 5- التجارب الخيالية..."(3).

  وقد رأى الباحث أن مصادر الإبداع هي: الواقع، التاريخ، التراث الشعبي (بما فيه الحكاية والأسطورة والطقوس)، الخيال، إضافة إلى المصادر الأدبية والفنية السابقة... والدكتور "مندور" يرى أن الخيال مثل من لم يعش تجربة عشق ولكنه يستطيع أن يتخيلها. ولكن الخيال الذي يعنيه الباحث هو الذي لا يتشابه مع الواقع، مثل سكان الفضاء وما إلى ذلك. أما ما عناه "مندور" بالخيال فإن الباحث يرى أنه يدخل ضمن الواقع، مثله مثل التجارب الشخصية والاجتماعية؛ لأن كل عمل إبداعي في صياغته الفنية لا يخلو من خيال المبدع نفسه، ولا يمكن أن يكون نسخة مطابقة للواقع، على الأقل في تركيب الأحداث التي تخضع لقواعد فنية مثل قواعد البناء الدرامي.

 الخيال التاريخي (Historical Fantasy)
مصطلح يستخدم للدلالة على الأحداث المتخيلة من سياق تاريخي، بحيث يتشابه النص المتخيل مع حقائق الفترة التاريخية. وتعريفه كما جاء في موسوعة wikipedia هو:

 "Historical fantasy is a subgenre of fantasy, related to historical fiction. It is used to describe a story set either in a specified historical period but with some element of fantasy added to the world, such as magic or a mythical creature, or in a purely fictional world which, however, «strongly resembles a specific historical period (الخيال التاريخي هو نوع ثانوي من الخيال، يتعلق بالأدب القصصي التاريخي، ويوظف لتصوير قصة ميزت فترة تاريخية معينة، ولكن ببعض عناصر الخيال، مثل السحر، أو المخلوقات الأسطورية، التي تتشابه تماماً مع تلك الفترة)(4).

 الخيال التاريخي المقصود هنا -كما يفهمه الباحث- هو ما لم يحدث كحقيقة في التاريخ، ولكنه يكون من الممكن حدوثه في الفترة التاريخية التي يختارها المؤلف ليبني من خلالها عمله الفني. وهذا التعريف أدخل السحر أو البساط السحري والمخلوقات الأسطورية، في سياق التاريخ؛ لهذا من الممكن اعتباره خيالاً تاريخياً. وربما يمكن اعتبار جمع شخصيات تاريخية من أزمنة مختلفة ومتباعدة هو نوعاً من الصياغة الفنية للتاريخ بالمجاز الفني (والمجاز كما هو معروف هو المعنى غير الحقيقي للفظ «عيناك شمس»، مثل: فوصف العين، وهي عضو بشري، بالشمس، وهي عنصر مادي، هو من باب المجاز، كما هو معروف)، والشخصية المجازية. وكما جاء في "المعجم المسرحي":

 "التشخيص المجازي هو طرح مفاهيم مُجرَّدة على شكل شخصيات لها ملامح أو أسماء توحي بهذه المفاهيم"(5).

 وعلى هذا فجمع شخصيات تاريخية من أزمنة متباعدة معاً، هو ليس حقيقة، ولا يمكن أن يحدث في الحقيقة، ولكنه مجاز يمكن قبوله، تماماً كما فعل، عبدالكافي محمد سعيد في نص "الفأر في قفص الاتهام"، حيث جمع شخصيات من أزمنة مختلفة؛ منذ انهيار سد "مأرب" في عهد الملكة "بلقيس"، حيث استدعى النص الملكة "بلقيس" من تلك الفترة، وكذلك شخصية "سيف بن ذي يزن"، و"أبرهة الحبشي" في فترة الاحتلال الحبشي لليمن، وشخصية "الأسود العَنْسِي" في بداية العصر الإسلامي؛ جمع كل هؤلاء في مكان واحد، هو قاعة محكمة في العصر الحاضر، كما سيفصل الباحث أثناء تحليل النص. إن مثل هذه الصياغات للأحداث، يسميها الباحث "صياغات فنية". ولا يرى أن فيها خيالاً تاريخياً، لأن الشخصيات والأحداث المستدعاة من التاريخ حقيقية، وليست خيالية. ولكن جمع هذه الشخصيات من زمنين مختلفين متباعدين أو أكثر كان غير حقيقي، وهو ما يمكن أن يسمى "مجازاً"، وليس خيالاً.

 مبحث: التاريخ

  رأى الباحث أن يدرس الفرق بين التاريخ والإبداع، إضافة إلى الضرورات أو الأسباب التي تجعل المؤلف يتخذ التاريخ مصدراً لنصه الدرامي. ومن خلال كل ذلك يتكشف الفرق بين التاريخ والإبداع، ورؤية الباحث للتمييز بين التاريخ والإبداع، والتي سيتحدد من خلالها الفارق بين النصوص ومصادرها.

 الفرق بين التاريخ والإبداع

 التاريخ في أبسط معانيه هو حقائق ووقائع ماضي البشر، في حدود الزمان والمكان والأحداث. ويُستخدم بمعنيين مختلفين، كما يشير علي أدهم:

 "كلمة التاريخ، في الاستعمال المألوف، مصطلح يشمل معنيين مختلفين. وفي أغلب الأحيان يقصد به: الأعمال والمنجزات التي قام بها الإنسان فيما مضى من الزمان. وكثيراً ما يستعمل كذلك ليدل على رواية تلك الأعمال والمنجزات وتسجيلها. وهو بهذا المعنى لا يوجد إلا في الصورة التي يصور بها، أي في الصورة التي أعاد خلقها العقل"(6).

 إن الفرق بين التاريخ والإبداع، كمفهوم، هو المحور الذي سيتم من خلال نتائجه تتبع الفرق بين التاريخ في التاريخ، وبين التاريخ في النصوص الخاضعة للدراسة في هذا البحث. وقد كان "أرسطو" هو أول من حدد الفرق بين الشعر والتاريخ، في كتابه "فن الشعر"، حينما قال: "الشعر أكثر فلسفةً من التاريخ"؛ ذلك لأن التاريخ يرتبط بالحقائق الثابتة، في حين أن الإبداع، بما فيه الدراما والآداب والفنون المتنوعة، يعتمد على الرؤية الإبداعية، وهي رؤية تتجاوز الخاص إلى العام، والجزئي إلى الكلي، بعكس التاريخ. إن التاريخ يعتمد على ما يسمى بالحقيقة التاريخية.

 "... إن نوعية الهدف الذي يسعى دارس التاريخ إلى التوصل إليه، والذي ينتظره أو يقبل عليه قارئ التاريخ، هو الذي يحدد كنه الحقائق التاريخية المطلوبة في كتابة هذا التاريخ، وهي التي تميزها عن غيرها، فَنَصِفها بأنها حقائق تاريخية... فالحقائق التي تخدم الهدف الأساسي من كتابة التاريخ تصبح هي الحقائق التاريخية، بغض النظر عن استخدامها أو عدم استخدامها من جانب من يكتبون التاريخ أو يدرسونه لأسباب عابرة أو جانبية"(7).

           إن التاريخ، كما سلف، يعتمد على الحقائق التي وقعت، كأحداث تضم بالضرورة شخصيات داخل الزمان والمكان، بتفصيلات توثيقية. في حين أن الأدب، والدراما تحديداً، تتجاوز الزمان والمكان، برؤيتها الأشمل، والتي تمس القيم العامة؛ مع الأخذ بالاعتبار أن أحداث التاريخ، وشخصياته أيضاً، تحكمها قيم، ولكنها محكومة بحدود المكان والزمان الماضي. في حين أن الإبداع يمس الحاضر والمستقبل، بالعموم وليس بالخصوص. من هنا يمكن القول إن النصوص المسرحية التاريخية هي النصوص التي تتخذ مصدرها من التاريخ، بناء على تعريف الدكتور إبراهيم حمادة:

 "الدراما التاريخية: Historical Drama القطعة الدرامية التي تتخذ مادتها من التاريخ... إذا كان الموضوع المعالج مستمداً من أحداث الماضي. أما عن مدى التزام الكاتب المسرحي بالحقيقة التاريخية التي يعالجها، فقد مال بعض النقاد إلى القول بوجوب التزامه بالخطوط العامة الأساسية، دون التقيد بالتفاصيل الجزئية. بينما مال البعض الآخر إلى التصريح الحر للكاتب، بأن يُعمل خياله في المادة التاريخية، مثلما يُعمله في وقائع الحياة»(8).

 

أسباب لجوء المؤلف إلى التاريخ

 اجتهد الباحث في محاولة فهم أسباب لجوء المؤلف الدرامي للتاريخ كمصدر لنصه. وقد رأى أن من الممكن تحديد اتجاهين في أسباب لجوء المؤلف للتاريخ: اتجاه فني (تقني)، وآخر موضوعي. ففي الاتجاه الأول يلجأ المـؤلف إلى الإبعاد الزماني والمكاني، للاستفادة من بعض آليات الكتابة التي تمنح أعمالهم ملمحها الأدبي، كما فعل الشكلانيون، وذلك بكسر مألوفية الأشياء والأحداث التي اعتدناها من كثرة ممارستها وتكرارها في الواقع الآني، وأثرت سلباً على نضارة إدراكاتنا لها، بحكم ألفتها للمتلقي. وهذا الكسر يتم بتغريبها أو بإبعادها في الزمان والمكان، من أجل ضرورة الوعي بها عبر العلاقة الجدلية بين هذه الأشياء والأحداث في بعدها التاريخي وواقعها الحياتي.

 ويرى الباحث أن نص "الفأر في قفص الاتهام" قد استخدم التاريخ وشخصية التاريخ (الراوي) كنوع من التغريب وتقديم المألوف بشكل غير مألوف، كتقنية كتابة، لعرض مشكلة الفساد عبر التاريخ اليمني، منبهاً إلى ضرورة الوعي بالمصلحة العامة للناس. وقد أفرد الباحث دراسة عن هذا النص في المبحث الأول من هذا الفصل.

 أما الاتجاه الثاني الموضوعي، فقد جاء في نصوص هذه الرسالة من خلال أكثر من مدخل، كما سيتكشف من خلال التطبيق، أهمها الإسقاط السياسي، كما في نص "موتى بلا أكفان" لـمحمد الشرفي، الذي يعرض أحداثاً لفترة تاريخية تعود إلى مطلع الأربعينيات من القرن العشرين، في فترة حكم الإمام "يحيى"، ولكنه في الوقت نفسه يتحدث عن قضية فلسطين:

 «ثلاثتهم: لم يِضَيِّع فلسطين إلاّ الاحتجاجات شديدة اللهجة...

  الأول: لو أعيدت حقوق بالاحتجاجات شديدة اللهجة لكنا قد استعدنا فلسطين من زمان"(9).

 وهذا لا يتسق مع فترة النص التاريخية، التي تعود إلى بداية الأربعينيات من القرن العشرين، حيث انتشرت المجاعة والمرض، وحصد الموت الكثير من أبناء الشعب الفقراء، ولم يجدوا حتى أكفاناً لموتاهم؛ لأن قضية فلسطين بدأت بعد 1948. وخاصة قضية "الاحتجاجات شديدة اللهجة"، إضافة إلى ذكر ما يربط النص بفترة كتابته، مثل: "الأمن الوطني والأمن العام وأجهزة دولة".

 "الشاب: أما الحرية، فهي مكفولة في بلادنا.. تصور أن الجوع يفتك بالناس دون أن تتدخل أجهزة الدولة، ولا الأمن العام، ولا الأمن الوطني أو المحلي بشيء"(10).

 أجهزة الدولة هذه لم تكن موجودة في الفترة التاريخية التي لمسها النص، ولكنها كانت موجودة في فترة كتابة النص، وهو ما يكشف عن حيلة فنية لجأ إليها المؤلف، للإسقاط السياسي، ربما لتشابه سمات السلطة في الفترتين. وأهم ما يربط النص بالإسقاط السياسي، هو ما شاع، في فترة حكم عبد الرحمن الإرياني، التي تقع ما بين 1967 و1974، من التعدي على حريات الناس حتى في إطالة شعر رؤوسهم، والتحكم بذلك بشكل سافر، حيث حمَّلت السلطةُ الناسَ تبعة صعوبة العيش والجفاف التي سادت في تلك الأيام، بسبب معاصيهم. وقد قدم "الشرفي" لهذه الفترة نقداً لاذعاً في نص آخر أكثر وضوحاً، هو "من مواسم الهجرة والجنون". ولكنه في هذا النص قد أغرق في الإبعاد الزماني والمكاني، لدرجة أوقعت النص في خلط بين الإسقاط وبين استعراض أنموذج من ظلم الماضي في مطلع الأربعينيات من أيام حكم الإمام "يحيى" التي امتدت من 1904 إلى 1948. إن ما وقع فيه النص من إشكالية في توظيف الإسقاط هو الإغراق في بعض الأحداث التاريخية، المتعلقة بطبيعة حكم الإمام، مثل منع الأغاني، وإغلاق المطبعة الوحيدة التي أدخلها الأتراك، وإهمال مقابلة النساء؛ مع ملاحظة أن الباحث يرى أنه في حالة الإسقاط السياسي على فترة تاريخية، من المهم إهمال الأحداث التاريخية التي لا تتشابه مع الواقع، والتي تتناقض معه، حتى لا يفسد أثر الإسقاط، فيختلط الأمر على المتلقي، أو حتى الباحث قليل الخبرة، فلا يدرك أهمية الإسقاط فيه، أو يصنف النص كعمل تاريخي يعرض مظالم الإمامة تمجيداً للثورة أو لشخصيات تاريخية، كما لاحظ الباحث ذلك التمجيد في بعض نصوص محمد الشرفي، التي مجدت الثورة، مثل نص "الانتظار لن يطول"، ونصوص محمد عبده غانم: "الملكة أروى" و"عامر بن عبد الوهاب"، التي مجدت شخصيات تاريخية. ومن أسباب لجوء الكاتب للتاريخ: إحياء الماضي، من خلال العودة إلى التاريخ؛ وله عدة أسباب، مثل التعريف بأحداث معينة لحفرها في ذاكرة الأجيال، ويكون من خلال عدة أشكال فنية، منها النُّصُب التذكارية واللوحات التشكيلية والأعمال السينمائية والنصوص الإبداعية، وتهدف إلى تعريف الناس بماضيهم، أو ترجيح رؤية تاريخية معينة. ولا يمكن للباحث أن يعزل ميكانزم التوافق بمفهومه النفسي، في أحد مظاهره، وهو النكوص، كسبب من أسباب لجوء بعض الكتاب للتاريخ (الماضي)، خاصة حينما يكون إعادة إنتاج التاريخ لمجرد إحياء الماضي، وهو سبب سلبي، في تصور الباحث، ما لم يحقق هدفاً يساعد على الاستفادة منه في الحاضر أو المستقبل. يكون التاريخ، كما يقول الاردايس نيكول، في تعليقه على استخدام بعض الكتاب الإنجليز للتاريخ في نصوصهم الدرامية، ليس إلا مجرد إحياء للماضي والإفلات من قيود الواقعية.

 "كُتَّاب المسرح الإنجليزي بوجه عام لم ينشدوا في معالجتهم للموضوعات التاريخية أن يجعلوا من الماضي تعليقاً على الحاضر. إن ما يميز مسرحياتهم بصورة عامة هو جهدهم الصريح لمجرد إحياء الماضي... واستعمال المنهج التاريخي لتلمس سبيل للإفلات من قيود الواقعية"(11).

 وفي النصوص التاريخية التي حللها الباحث، وجد أن نصوص الدكتور محمد عبده غانم، هي نوع من إحياء الماضي للتعريف به، كما سنفصل في المبحث الأول من هذا الفصل.

 يؤكد الباحث أن الأسباب التي تجعل المؤلف الدرامي يلجأ إلى التاريخ، ليس من المنهجية محاولة حصرها، لأنها -من ناحية- مسألة حرية اختيار، ليس شرطاً أن يبررها الباحث، ومن ناحية أخرى تبقى قابلة للتعدد والتجدد، وبالتالي يكون لكل نص خصوصية أسبابه. ولكن من هذه الأسباب: الهروب من قيود الرقابة وضيق أفق الحريات التعبيرية في الواقع، كما قد يكون من باب التعليق على الحاضر من خلال الماضي، أو للاقتراب أكثر من صفة التراجيدية، كما يرى "نيكولا":

 "ويكمن أحد الاهتمامات الرئيسية لهؤلاء المسرحيين بالموضوعات المأخوذة من الماضي، في الكيفية التي يمكن بها التعليق على الحاضر، باختيار موضوع العصور الماضية. وهناك حافز آخر لبعضهم، مبعثه إدراكهم ألاَّ أمل في الدنو من الصفة التراجيدية إلا بتناول قصة من الزمن البعيد..."(12).

  قد يلجأ المؤلف إلى التاريخ من باب استعراض مواقف حاسمة من التاريخ، كما فعل القرشي عبد الرحيم سلام، في نص "مع الشمس يجيئون"، الذي مر على تاريخ اليمن منذ أيام انهيار سد "مَارِبْ" ومروراً بالثورات والأزمات السياسية التي مارست الظلم على اليمنيين، وخاصة الحملات العثمانية، ووصولاً إلى الإمامة؛ وكل ذلك لكي يشير إلى أهمية الثورات والتحرر من ظلم الطغاة على مر التاريخ، أو لحب المؤلف لشخصية تاريخية أو لقيم تاريخية سادت في الفترة أو في الشخصيات التي استند إليها، مثلما فعل محمد الشرفي، في نصي: "الانتظار لن يطول"، و"الغائب يعود"، وكلا النصين يتناول حياة الشاعر المناضل محمد محمود الزبيري، الملقب بـ"أبي الأحرار"«ولقب اسمه في النصوص "العزي»، حيث وضح "الشرفي" رغبته تلك في مقدمة النص الأول:

 "... وهنا وجدت نفسي مندفعاً لكتابة ما هو أكثر من الدراسة الأدبية. وكان المسرح هو طريقي لتمثيل شخصيته... معترفاً بالعجز عن تناول كل أبعاد شخصية الشاعر الكبير والثائر العظيم"(13).

 وقد وجد الباحث أن مصادر النص التاريخية، في إطار بحثه، جاءت على مستويين:

  (أ) المحاكاة المباشرة للتاريخ في النص.

 (ب) المحاكاة غير المباشرة للتاريخ في النص.

 (أ) المحاكاة المباشرة للتاريخ في النص

 النص الدرامي محاكاة لفعل من الحياة. هذا الفعل هو مصدر النص. والباحث يفهم المحاكاة في النص أنها إعادة تصوير لفعل، بناء على تعريف "أرسطو" للتراجيديا: "التراجيديا -إذن- محاكاة لفعل جاد تام في ذاته..."(14).

 وفي شرح كلمة "محاكاة" Imitation –Mimesis يقول د. إبراهيم حمادة:

 "... ذكر أرسطو في كتابه «فن الشعر» أنها محاكاة لفعل عن طريق استخدام الشخصيات، والفكر، والكلمات... أما كُتَّاب الرومانسية فقد اعتنقوا مفهوماً آخر للمحاكاة، وهو أن العملية الفنية عبارة عن عرض مثالي للحياة الإنسانية. وبظهور مذهبي الواقعية والطبيعية تأكد مفهوم المحاكاة بأنه تصوير صادق للحياة البشرية... مدلول المحاكاة في الوقت الحاضر... وهو أن الشاعر لا يحاكي أحداثاً تاريخية خاصة، ولا شخصيات أو انفعالات خاصة، وإنما يحاكي أوجه الحياة في عالميتها"(15).

 وفي تصور الباحث أن الاختلاف في تفسير المحاكاة، الذي بدأ منذ العصر الروماني، كان اختلافاً في تفسير وظيفتها، في حين أن كل المفاهيم التي تحدثت عن وظيفة المحاكاة إلى الآن لم تختلف في تفسير طبيعتها، على اعتبار أنها إعادة تصوير. والباحث ينطلق من مسلمة واضحة، وهي أن المحاكاة إعادة تصوير، وأن النص هو تصوير لشكل من أشكال الحياة، هذه الحياة تكون إما حدثت في الماضي (تاريخاً) وإما في الحاضر (واقعاً) وإما متخيلة (أو إعادة تصوير/ إنتاج عمل إبداعي آخر، فردياً/ نص، أو جماعياً/ تراث شعبي). إذاً، المحاكاة المباشرة للتاريخ في النص هي التي يعتمد فيها المؤلف على المادة التاريخية في أفكارها وحقائقها، فتتطابق الفكرة الإبداعية مع الفكرة والحقيقة التاريخية. إن المحاكاة المباشرة للتاريخ، في النصوص الخاضعة لزمن البحث، جاءت عند كل من محمد عبده غانم ومحمد الشرفي، بأسلوبين مختلفين: الأسلوب الأول هو الذي عالج فيه الدكتور محمد عبده غانم نصوصه التاريخية، كما في نص "الملكة أروى" (1976). النص محاكاة لأحداث التاريخ بأسلوب محايد، باستثناء اللغة الشعرية التي صاغ بها بعض الحقائق التاريخية. وجاءت الشخصيات والأحداث مطابقة للأفكار والحقائق التاريخية، وصور الأحداث فيها من خلال وصف خبري وليس من خلال فعل مرئي متجسد.

 و"الملكة أروى"(16) نص يقدم في البداية لمشكلة انتقام "المكرم" (الصُلَيِحِي)، ومركز حكمه السابق (صنعاء)، من سعيد الأحول النجاحي، حاكم "زبيد"، الذي غدر بأبيه وسجن أمه؛ حيث كانا في طريقهما إلى الحج، ومن سجنها تسرب الأم (أسماء) رسالة في رغيف خبز تخبر فيها ابنها أنها اغتُصبت وعليه أن يثأر لها. ولولا هذا الاستفزاز لما سارع "المكرم" للانتقام ودحر النجاحيين من "زبيد" بعد فرار أهم القادة: "جيّاش" الذي يعود بعد فترة لينتزع "زبيد" من أيدي الصليحيين بتعاون أهل "زبيد" أنفسهم. ولكن "المكرم" يصاب بمرض "الفالج" هناك، وبعد عودته إلى "صنعاء" يكون قد اعتل من المرض، فتشير إليه زوجته (أروى) بنقل مركز الحكم إلى "جبلة" وتتولى عنه الحكم، وهناك تدير معاركها مع النجاحيين، الذين ظل الصراع معهم قائماً والنصر سجالاً. ويعرض النص لعلاقة "أروى" بالفاطميين في مصر... ثم بعد موت "المكرم" يعرض النص لمشكلة طارئة، وهي رغبة أحد القادة الصليحيين الطامعين في الزواج من الملكة "أروى"، التي ترفضه، مما يسبب صراعاً كاد أن يوقع فتنة، مما يدفع للاحتكام إلى الفاطميين في مصر، حيث يبعث الخليفة أمراً إلى الملكة بقبول الزواج، وهو ما تقبله بنوع من السياسة، بحيث لم تمكنه من نفسها ولا من السلطة التي يطمع بها، وزوجت ابنتها بابنه، وبهذا تخلصت من كثير من ضغوطه وأطماعه. ثم يعرض النص في قسمه الأخير لعلاقة الملكة "أروى" بالخليفة الفاطمي العاشر (الطيب) وطلبها المساعدة العسكرية منه، والذي يرسل لها نجدة بقيادة "النجيب"، وما ترتب على ذلك من خلافات "النجيب" والملكة، بسبب تطاوله عليها واتهامها بالخرف، ولكنها تؤدبه، وتعيده إليها بالترغيب بعد الترهيب، مما جعل بعض القبائل التي ساندتها عليه تنفض من حولها، بسبب ما أغدقته على "النجيب" دونهم. ثم بصيغ خبرية سريعة يعرض النص لتحول مسار الفاطميين في مصر بولاية جديدة تكيد لابن الخليفة السابق، الذي اختفى. هذه الولاية، ممثلة بـ"عبد المجيد"، ترفضها الملكة "أروى" وتبقى على ولائها لابن الخليفة السابق (المختفي)؛ حيث ينتهي النص بطلب إعادة مندوب مصر (النجيب) مغلولاً مطلوباً بسبب مكيدة رسول مصر الأخير الذي اختلف مع صاحبه. وتحرص الملكة على وصول (النجيب) بالسلامة... وتوضح الملكة موقفها في رفض الخليفة الجديد بحكم أن ولاءها لم يكن إلا للخلافة الفاطمية، ولو كانت في بغداد لتبعتها، وتشير إشارات خبرية لموت أعوانها وانفصال بعضهم، مثل انفصال عدن بقبول تابعية الخليفة الجديد في مصر. وينتهي النص بقول عمرو بن معدي كرب:

 ذهب الذين أحبهم

 وبقيت مثل السيف فردا

 نص "الملكة أروى" بين المصدر التاريخي ورؤية المؤلف

 إن هدف المؤرخ هو تثبيت الحقيقة التاريخية، من خلال أحداث جوهرية توضح تلك الحقيقة. وهدف المبدع هو تقديم رؤيته للفكرة أو للموضوع الذي يختاره، من خلال بناء فني محكم. وأهم أدوات المبدع هي امتلاكه لتقنيات التأليف. وقد بدأ النص بالإشارة إلى "لمحة تاريخية عن عصر المسرحية"، وهي الحقائق التاريخية نفسها(17) التي اعتمد عليها بكل شخصياتها وأحداثها.

 "تبدأ حوادث هذه المسرحية في أواخر النصف الأول من العصر الصليحي في اليمن، الذي امتد حوالى مائة عام، وذلك من عام 440 حتى عام 532 للهجرة. وقد سمي بالعصر الصليحي نسبة إلى مؤسس الدولة الصليحية (علي بن محمد الصليحي) الذي تولى بعده ابنه المكرم أحمد. وكان المكرم قد تزوج أروى بنت أحمد... والتي بدأ دورها القيادي بعد أن أصيب زوجها بالفالج، إثر استيلائه على مدينة زبيد عاصمة بني نجاح، وتخليصه أمه (أسماء بنت شهاب) من أسر سعيد الأحول، سيد بني نجاح. وكان "سعيد" قد انتقم لأبيه "نجاح" مؤسس الدولة النجاحية من علي بن محمد الصليحي عندما فاجأه وهو في طريقه إلى الحج فقتله وأسر زوجته أسماء"(18).

 والنص يبدأ من بعد تخليص "أسماء" من أسرها واستعادة الصليحيين لـ"زبيد".

 "الرداح: اليوم عاد إلى الصليحيين ما قد كان يقسم حتى "تهامة"، حيث ملك "بني نجاح" قد تصرم.

  أروى: قد عاد، إلا أنني أخشى وثوب بني نجاح، "فسعيدهم" في "دهلك" يسعى ويدأب للنجاح"(19).

 كما أن النص يشير إلى تحول مركز عاصمة الحكم الصليحي من "صنعاء" إلى "جبلة"، حيث أشارت "أروى" على زوجها "المكرم" بذلك.

 "الرداح: وهل تشتهي أروى رحيلك عن صنعاء!؟ فما أجملت رأياً ولا أحسنت صُنعاً.

  أسماء: قد أشارت على المكرم أن يرحل عنها ويستقر بجبلة.

  أروى: إيه والله! قد أشرت عليه وهو أدرى بحجتي والتعلّة"(20).

 وفي الحقائق التاريخية لهذا الموقف:

 "... وكان الصليحيون قد اتخذوا من صنعاء عاصمة لملكهم. فلما تولت أروى زمام الحكم نيابة عن زوجها انتقلت عاصمة ملكهم إلى مدينة جِبْلَة التي تقع قريباً من تعز. وقد استطاعت أروى أن تنتقم فيما بعد من سعيد الأحول بعد أن استولى على زبيد للمرة الثانية"(21).

 إن مشكلة هذا النص، كنموذج لأعمال محمد عبده غانم، أنه يفتقد لأهم وظيفة من وظائف النص الدرامي الذي يستند إلى مصدر تاريخي، وذلك هو غياب الرؤية الإبداعية والفعل المتجسد، والاكتفاء بتسجيل بعض الأحداث بصياغة شعرية خبرية، وأحياناً كثيرة خالية من الصور الشعرية في تصوير أحداث عرضية وبشكل خبري، مثل خبر وفاة "أسماء" والدة الملك "المكرم".

 " أروى: هذا كتاب جاء من صنعاء ينعي إليَّ عمتي أسماءْ.

  الحسين: سيدتي، تقبلي العزاء، من قلبي الحزين، والدعاءْ...

  أروى: أما الصليحي الذي في "أشيحا" فأكتب إليه بالعزاء مفصحاً، وأعلن الحداد في "ذي جبلة"، إياك أن يرفع حتى نسمحا"(22).

  وكما لاحظ الباحث ذلك في حوار "الرداح" أم الملكة "أروى"، وهي تشير إلى أخي سعيد النجاحي (جَيّاش) وتوجسها من عودته لاستعادة "زبيد" بعد أن استولت عليها للمرة الثانية.

  "الرداح: أنسيت جيّاشاً وأخاه ودوره عند الكفاح؟!

  أروى: لم أنسه فهو المدبر للرجال وللسلاح"(23).

 و فعلا تحقق توجس "أروى" من عدوها "جياش". وهو ما حدث تاريخياً.

 "بيد أن النجاحيين، بقيادة جياش بن نجاح، تمكنوا من العودة إلى زبيد والاستيلاء عليها للمرة الثالثة، وأصبح القتال على زبيد ونواحيها فيما بعد سجالاً بينهم وبين الصليحيين"(24).

 كما أن النص يستمر في إعادة تصوير حقائق تاريخية متفرقة، مثل ولاء الصليحيين للخليفة الفاطمي في مصر.

 "وبعد وفاة المكرم استطاعت "أروى" أن تبقي زمام الحكم في يدها بالرغم من منافسة كبار الأمراء الصليحيين لها، معتمدة في ذلك على دهائها وعلى تأييد الخليفة الفاطمي في مصر. وكانت الدولة الصليحية في اليمن قد قامت على أساس الدعوة للمذهب الفاطمي، بينما كانت الدولة النجاحية تعارض هذه الدعوة وتدعو للخلافة العباسية في بغداد"(25).

 وهذه الحقيقة التاريخية أيضاً تعرض لها النص مشيراً إلى أن ولاء "أروى" لمصر كان عقائدياً.

 "أروى:... خضعنا لحاكمها الفاطمي وليس لسيدها والعميد، ولو لم يكن فاطمياً لما رأينا له الحق فيما يريد،  ولو كان للفاطميين في منازل بغداد ملك وطيد  لكانت وشائجها بيننا أشدّ وأبقى لها من زبيد"(26).

 هكذا وجد الباحث نص محمد عبده غانم يقدم -شعرياً- حقائق تاريخية تتعلق بالملكة "أروى" وسياسة الدولة الصليحية في عهدها، بشكل خبري وبدون رؤية إبداعية، مما جعل النص محاكاة مباشرة تعيد كتابة حقائق التاريخ بلغة المؤلف، وهو نص يمثل أنموذجاً لمجرد إحياء الماضي.

 والشكل الثاني، هو الذي عالج به محمد الشرفي، في نصيه: "الانتظار لن يطول" (1976)، و"الغائب يعود"(1976) حول الشاعر محمد محمود الزبيري، واعتمد على حقائق تاريخية صاغها في بناء درامي يحمل رؤيته التي لا تختلف كثيراً عن الحقائق التاريخية. وقد أفرد الباحث مساحة كافية لدراسة النصين. والفرق بينه وبين محمد عبده غانم أن "الشرفي" اكتفى بمحاكاة القيم والأفكار وبعض الشخصيات، بينما محمد عبده غانم حاكى الأحداث والشخصيات بشكل كامل.

 في نص "الانتظار لن يطول"(27) تتكثف أحداث النص في موقف الإمام من قضايا وهموم شعبه؛ وهو موقف ظالم يقوم على التجهيل ونشر الخرافات واهتمامه برغباته الخاصة، مقابل وجود جماعة من الثوار والعلماء، وعلى رأسهم محمد محمود الزبيري (العزي)(28)، الذين كانت لهم مطالب دستورية لإصلاح نظام الحكم، وهي محاولات لم تُجْدِ مع ظلم الإمام، مما يجعل "الزبيري" ومن معه يلجاؤن إلى تكوين حركة الأحرار لمقارعة الظلم والسعي لإزالته، ونتج عن ذلك ثورة 1948 وقتل الإمام. وخلال فترة نجاح الثورة التي استمرت حوالى شهر يوفد "الزبيري" إلى بعض الدول العربية لجلب تأييد دولي لدولتهم الوليدة. ولكن تحدث النكسة المعروفة في اليمن بنكسة 1948؛ بعودة الإمام "أحمد" خلفاً لأبيه، وقتل خيار علماء وثوار اليمن وينجو "الزبيري" بسبب سفره.

 أما نص "الغائب يعود" فتتكثف أحداثه في عرض أهم ما يتعلق بشخصية "الزبيري" (العزي) بعد الثورة، وما تميز به من نبل وتفان في محبة الناس والمصلحة العامة، ولكنه يصطدم بمجموعة من قيادة الثورة، تتآمر عليه مع قوى الإمامة التي ظلت تصارع الثورة، وبتساهل الوجود المصري الذي ساند الثورة بدعم غير محدود، مادياً ومعنوياً وعسكرياً، الذي لم يكن يفضل وجود "الزبيري"، ربما لأنه انتمى لحركة الإخوان أثناء وجوده في مصر؛ وبالتالي ينتهي النص -كما هو في التاريخ- باغتياله.

 نص "الانتظار لن يطول" بين المصدر التاريخي ورؤية المؤلف

 جاء في بداية نص "الانتظار لن يطول": "الزمن ما بين عام 1935 إلى 1948 ميلادية"(29)، وهي الفترة التي ظهر فيها محمد محمود الزبيري كشاعر. وقد أشار المؤلف في مقدمة النص إلى أنه تناول حياة "الزبيري" في نصين، وقسم فترة نضاله إلى مرحلتين... تنتهي المرحلة الأولى مع نهاية هذا النص في 1948، أي مع نكسة ثورة 1948. وفترة النص الثاني من 1962 إلى 1965، أي ينتهي بتاريخ اغتيال الزبيري(30). والنصان كلاهما شعري. في نص "الانتظار لن يطول" يعرض النص من البداية لممارسة القمع الفكري باسم الدين، كما يقدم صورة من صور الإمام، فهو يستقبل الشعراء المتزلفين والمنافقين، ويعتبر ما دون المدح هو من أفكار العصر الكافر، ويتذمر من الصحف والكتب العصرية.

 "الإمام: تقصد ما تكتبه الصحف الممنوعة أو ما يأتي في الكتب العصرية؟

  وزير 1: بئست من كتب وجرائد!

  الإمام: نحن منعناها، ونعاقب من ينشرها/ من يقرأها؛ فهي خطيرة... ضد شريعتنا الغراء، ضد القران"(31).

  ثم، يعقب الإمام على من يتطلعون للتحرر:

 "الإمام يحيى:... لا يعجبني/ شعر يخلط فيه الشاعر بين المدح وأفكار العصر الكافر..."(32).

 ولكن الإمام يدرك أن قوى التنوير، متمثلة بالشاعر "الزبيري"، هي التي يحتاج لولائها، ولهذا فهو حينما ينتهي الشعراء من مدائحهم يسأل عما سيقدمه "العزي محمود" الذي كان هدفه تلبية حاجات الناس:

 "العزي: رجعت من الباب/ والعسكر والحجاب

  والناس صفوف وصفوف/ وعرائضهم في أيديهم تتحرق...

 الإمام (بكبرياء): ماذا يبغون..؟

 العزي (بألم): يشكون ويبكون... حكامك، عمالك، والعسكر/ وجُباتك والقباضون"(33).

 الملاحظ هنا أن المؤلف يريد أن يثبت حقيقة تاريخية معروفة، هي الطريقة التي تعامل بها "الزبيري" مع الإمام "يحيى"، وهي -في البداية- النصح، وذلك ليس من خلال اللقاء المباشر مع الإمام، كما فعل المؤلف في النص، ولكن من خلال ما تقدم به إلى الإمام، في رسالة لإنشاء جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي رفضها الإمام، ومن خلال هذا الرفض يتأكد "الزبيري" من عدم فائدة استخدام النصح في توجيه الإمام لصالح البلد. وهذا لا يلغي تطابق الرؤية في النص مع الحقيقة في التاريخ. وبعد خروجه من السجن، شكل جماعة الأحرار مع النعمان، وكان ذلك في عدن في 1944.

 "وصل إلى عدن في يونيو عام 1944 أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري، وابتدآ. من هذه الفترة بالذات بدأت حركة المعارضة تسمى بـ"حركة الأحرار" وبدأ أعضاؤها يسمون أنفسهم "الأحرار اليمنيين" وأقام قائدا المتذمرين: أحمد محمد نعمان، ومحمد محمود الزبيري، اتصالات وثيقة مع التجار... ومن خلال الصحيفة التي مولوها، "صوت اليمن" نشروا أول بياناتهم"(34).

 هكذا تنعكس هذه الحقائق التاريخية على النص.

 "الإمام:... وصلتني بعض الأخبار!

 الوزير: عمّاذا مولاي..؟

 الإمام: عمن سموا أنفسهم بالأحرار"(35).

  في تاريخ "الزبيري" أنه في سنة 1939 سافر إلى القاهرة لغرض الدراسة، ولكنه عاد في سنة 1942 قبل أن يكمل دراسته، حيث اصطدم بالإمام الذي أودعه السجن.

 "وعند قدومه إلى اليمن قدم مذكرة للإمام المتوكل يحيى حميد الدين تتضمن مشروعاً لإنشاء جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما ألقى خطبة في الجامع الكبير بصنعاء؛ وهو ما أغضب الإمام يحيى؛ فكان جزاؤه السجن مع عدد من شباب اليمن الأحرار في سجن «الأهنوم»؛ حيث انصرف للصلاة وتلاوة القرآن والذكر والتأمل وكتابة الشعر...»(36).

  بعد خروجه من السجن انتقل إلى "عدن" سنة 1944 هرباً من ظلم الإمام، ليكوّن حركة الأحرار مع "النعمان"، كما أشار الباحث سلفاً. وحينما قتل الإمام "يحيى" سنة 1948، بعثته القيادة الجديدة إلى الوطن العربي لكسب التأييد والاعتراف بدولتهم. وأثناء وجوده في الخارج وخلال فترة لا تزيد عن شهر، انتكست الثورة وعادت الإمامة باسم الإمام "أحمد"، باحتيال ومكر الإمام "أحمد" والذي كان يدعي أنه مع الثوار ضد أبيه، ولكنه ما إن تسلم زمام السلطة حتى أعدم كل القيادات الثورية من علماء وفقهاء وأدباء، في مجزرة تكررت سنة 1955، بعد مجزرة 1948. راح ضحيتها خيرة الشخصيات اليمنية المناضلة، وعلى رأسهم الشاعر الفقيه العالم زيد الموشكي(37).

 وفي إشارة إلى الخطبة التي ألقاها "الزبيري" في "الجامع الكبير" وأثارت غضب الإمام، وأشار إليها النص:

 "الإمام (غاضبا): رجل حاقد يدعى أحد الأحرار"(38).

 ثم حين يتقابلان، "العزي" والإمام، في النص:

 "العزي محمود: من صنع إمام الشعب!؟

  (ثم إلى الإمام) فكر يا ظل الله على الأرض!

  الإمام (هادئا): أهلاً بخطيب الجمعة!

  ماذا أعددت لنا اليوم..؟"(39).

 الملاحظ هنا أولاً أن هذا اللقاء بين الإمام وبين "الزبيري" لم يجد الباحث ما يؤكد حدوثه حقيقة في التاريخ؛ ولكن الاختلاف بين الإمام والعلماء والفقهاء والشعراء، ومنهم "الزبيري"، كان معروفاً. وحتى "الزبيري" في الحقائق التاريخية، حينما تقدم للإمام تقدم له بمذكرة يطلب فيها إنشاء جمعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألقى على إثرها خطبة الجمعة التي أدخلته السجن، دون أن يكون بينهما لقاء. إن وضع الإمام في حوار مع الأحرار (كحيلة فنية لجمع الشخصيات على الخشبة) يعني أن الديمقراطية كانت في أحسن أحوالها، وهذا تاريخياً غير صحيح. إضافة إلى خطورة الدوال الدرامية (الحوار المتقابل بين طرفي الصراع، وهما الإمام والثوار) قد عكس دلالات للحرية والديمقراطية، وهذا فرغ القضايا من حقائقها التاريخية، من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يتسق مع شخصية الإمام المستبد الظالم، والذي كان يلجأ إلى تجهيل الناس بالخرافات.

 "الإمام: لا أحتاج إلى نصح منكم/ أعرفكم من أنتم!

  (يقوم من مكانه ينادي الخادم) يا خادم! فلتعلن للناس...

  الخادم: أجل. شيخ الجن توفي!

 الإمام: وإذا دهن الناس جميعاً بالقطران/ سلموا من داء الجان"(40).

 الملاحظ أن "الشرفي" قد كرس فكرة "الجن" و"القطران" نفسها، في نص "العجل في بطن الإمام" (وهي حقيقة تاريخية ولكنها هامشية). وقد تَحَوَّل "الزبيري" هنا إلى شخصية عادية؛ في حين أن النص المسمى "الغائب يعود" كان أكثر قرباً من شخصيته ومن الأحداث التاريخية، كما سيتضح. وولي العهد "أحمد" هنا يكشف حقيقته الموالية لأبيه، بعكس ما كان يظهره للأحرار من التعاون معهم.

  "أحمد الإمام: مولاي... أبي... ماذا تبغي مني؟

  هل أتركهم في الصف الآخر؟/ وأشد بهم أزر الرأي الخارج عنا

  والعصر الكافر/ أم أجذبهم نحوي؟ سأظل كما تبغي مني جد محاذر.

 الإمام: ومع العزي محمود؟!

 أحمد الإمام: نصاهره حتى يصبح من هذا العرش وأبطاله.

 الإمام (باسما): سبقناك إلى الخطبة"(41).

 الواضح في هذا الاستشهاد حقيقة تاريخية ومعالجة نصية؛ الأولى أن ولي العهد "أحمد" كان يمثل دور المعارضة لغرض كشفهم والتنكيل بهم، وهو ما حدث تاريخياً، وذلك بعد أن قُتل أبوه وتسلم الثوار السلطة لفترة شهر تقريباً؛ لم يستمر معهم، وإنما استعان بأنصاره وأطاح بالحكومة الجديدة، وعاد إلى السلطة، كإمام بدأ قراراته بمجزرة 1948 المعروفة والتي بادر فيها بقتل الثوار، وتسمى تاريخياً بـ"نكسة 1948". والحقيقة الثانية هي ما لم يجد الباحث لها سنداً تاريخياً فيما لديه من مراجع، وهي مسألة طمع الإمام وابنه في الزواج من فتاة قريبة لـ"الزبيري"؛ ربما أراد "الشرفي" تصوير مزاج الإمام في النساء وعبثه، كما تكررت هذه الأفكار في أكثر من نص حول الإمامة وعهدها. والنص يشير في بقية أحداثه إلى انسلاخ بعض الخونة من الأحرار خوفاً من الهزيمة، وكانوا هم سببها، بإبلاغ الإمام "أحمد" عن خطة قتل أبيه، وهكذا يفر هو إلى مدينة "الحديدة" ثم إلى مدينة "حجة" ثم يعود بعد شهر ليقضي على الثورة الدستورية 1948، وكل هذه حقائق لامسها النص.

 "حامد ربه: نحن الآن مع أحمد/ وهو إمام المستقبل.

 الحكيم أحمد: ما دمنا لا نرفضه كإمام بعد أبيه... نفشي الأسرار.

 حامد ربه: نبلغه بالأمر..؟

 الحكيم أحمد: حتى يأخذ منهم حذره!

 حامد ربه: نودي بالأحرار..؟ فإذن نكتب هذا التقرير"(42).

 ثم يعرض النص لنكسة 1948، ويشير إلى سفر "الزبيري"، وقد أشار الباحث سلفاً إلى أنه بُعث إلى الدول العربية لكسب التأييد للدولة الجديدة.

 "الشيخ الصالح: لكن العزي سافر من أجل الواجب!"(43).

 وفعلاً بعد معركة مع الثوار يستعيد الإمام "أحمد" الحكم وينجو "الزبيري" من القتل بحكم سفره ولم يرجع إلا بعد الثورة. وينتهي النص بصوت يلقي أبيات شعرية شهيرة لـ"الزبيري".

 "الصوت: هنا القلوب الأبيات التي اتحدت           هنا الحنان هنا القربى هنا الرحم

  هنا البراكين هبت من مضاجعها تطغى وتكتسح الطاغي وتلتهم

  لسنا الألى أيقظوها من مراقدها         الله أيقظها والسخط والألم"(44).

 نص "الغائب يعود" بين المصدر التاريخي ورؤية المؤلف

 جاء في مقدمة النص: "الزمن: سبتمبر 1962 – أبريل 1965"(45).

  1962 هو تاريخ عودة "الزبيري" من تشرده خارج اليمن هرباً من ظلم الإمام. أما أبريل 1965 فهو تاريخ اغتياله. والمعروف تاريخياً أن "الزبيري" حينما عاد في 1962 استُقبل استقبالاً جماهيرياً حافلاً.

 "فعاد الزبيري إلى صنعاء، وأُعد له استقبال مهيب لم تحظَ شخصية جماهيرية بمثله. وعُيّن وزيراً للمعارف في حكومة الثورة، ثم نائباً لرئيس الوزراء وعضواً في مجلس الثورة، حتى استقال عام 1964؛ حيث إن التدخلات الخارجية أدخلت اليمن في حرب أهلية، فسارع الزبيري لإصلاح ذات البين بين القبائل، واشترك في مؤتمرات الصلح بين اليمنيين في كَرِشْ وعَمران"(46).

 ومن الواضح أن النص محاولة لإعادة الأحداث بلغة شعرية، كما نلمح ذلك من خلال وصف عودة "الزبيري"، ولكن بالطبع من خلال أسلوب المؤلف.

 "علي صرواح: عاد الغائب يا سادة!

  وظلال السفر المضني ترعش عينيه

  وهموم الأرض وأشواق الإنسان تلوح عليه

  بألوان الحب وأبعاد الحزن المعتادة..."(47).

 من الواضح أن استبدال الفكرة الإبداعية بالحقائق التاريخية يبدو كأنه لا وجود له، وهذا يؤكد كون النص محاكاة مباشرة لقيم وأفكار تاريخية تتعلق بـ"الزبيري". ولكن يوجد اختيار للدوال وتحديد الحقائق المراد تأكيدها من قِبل المؤلف. وحينما يجيء "العزي محمود" يدور الحوار والتساؤلات عنه وعن حاله، ولكنه لا يكاد ينبس بحرف إلا أن يستأذن. ويبدو أن صمته هذا كان يمثل موقفاً، وهو أن الشعب، بحاجاته ومطالبه، بالنسبة له، هو المرجع دائماً.

 "العزي محمود:... أحتاج إليكم أنتم/ يا من أطلعتم للشعب قناديل الصبح

  ومسحتم عار التاريخ به...

 قاسم (مبتسماً): مازلت بتلك الصوفية..؟

 العزي محمود:... أستأذنكم!"(48).

           ومن الواضح أن "الزبيري" من أول لحظة في النص، وفي التاريخ أيضاً، كان يرى أن العودة للشعب هي المخرج المناسب، وأن المؤتمرات الجماهيرية والحوارات المباشرة مع الناس وإقناع القبائل المتعاطفة مع الملكيين الذين ظلوا لسنوات يحاولون العودة للحكم، هو الحل الأسلم، بدلاً من اتباع أسلوب العنف والتصرف الأحادي من قبل قيادة الثورة. وقد استطاع النص أن يجسد هاتين الفكرتين: فكرة الاعتدال والحكمة وإشراك الشعب مباشرة، والتي يمثلها "الزبيري"؛ وفكرة يمثلها قيادة الثورة؛ كما يتضح من الفقرة التالية:

 "زايد شبرين (يتحرك من مكانه): العودة للشعب...!؟ (ساخراً) كيف

 العودة للشعب؟ (ثم جاداً) القوة...!

 أعوج سبر: الشعب بغير الشدة لا يخضع.

 زايد شبرين: طبعاً! ولنا بالعهد البائد أسوة.

  ما حَكَمَ الشعب إمام إلا بالقوة..."(49).

 والنص يشير أيضاً إلى التدخل المصري في اليمن، والذي لولاه لما نجحت الثورة في إرساء دعائمها.

 "قاسم: وما الإمكانيات لدينا/ ما خلفه العهد البائد من جيش مسكين/ لولا العون العربي(50) / لولا الحرس الوطني/ لولا نحن هنا نتحرك في كل مكان/ ونحرك أشجان الناس..."(51).

 كما وجد الباحث حقائق تاريخية تشير إلى دعم السعودية للملكيين، ودعم مصر اللامحدود للجمهوريين، والذي بدونه ما كانت الثورة ستنجح:

  Civil war ensued between royalist forces' supported by Saudi Arabia' and republicans' aided by Egyptian troops. The republicans gained the upper hand and Egyptian forces withdrew in 1967. In November President Sallal was deposed by a Republican Council. (نشبت حرب أهلية بين القوات الملكية المدعومة من المملكة العربية السعودية، وبين الجمهوريين الذين ساعدتهم مصر بالقوات العسكرية. وبعد انتصار الجمهوريين انسحبت القوات المصرية في نوفمبر 1967، وخلع المجلس الجمهوري الرئيس السلال)(52).

 ومن الحقائق التاريخية المعروفة أن الدعم المصري لم يكن عسكرياً فقط، ولكن دعماً لميزانية الدولة ودفع المرتبات. وترتب عليه طبعاً نفوذ كامل للدولة المصرية استمر حتى سنة 1967. وحينما نجح "الزبيري" في المؤتمرات الشعبية التي كان يعقدها ويتنقل بين الجمهوريين والملكيين من العامة، أثار حفيظة القيادات في كلا الطرفين، الجمهوريين والملكيين؛ لأن هدف "الزبيري" كان صادقاً وخالصاً لخدمة الشعب، وكان يتفانى ويتعفف في احتياجاته الشخصية، مغلباً المصلحة العامة. وهو ما تعكسه دراما النص:

 "الزوجة: أقصد أن نبدأ... يعني أن تنظر في أحوال البيت

  انظر حولك!/ تجد الناس جميعاً في حال أفضل/ إلا... إلا... (ترتبك)

 العزي: قولي! قولي: إلا نحن.../ لم نكسب مالاً، لم نعمر بيتاً باهر...

 الزوجة: أرجعت إليهم نصف الراتب/ الجزء الخلفي من البيت مهدم

  قلتَ لهم: حسبي نصف الراتب/ لو رممت به الجزء المخروب...

 العزي:... أما الراتب... فالواجب أن نأخذ منه قدر الحاجة..

  ونرد الباقي/ لسنا في ميدان سباق

  من يأخذ من مالية الدولة أو يسلبها أكثر"(53).

 الملاحظ هنا أن النص يشير إلى حقيقة تاريخية معروفة، وهي أن منزل "الزبيري" تعرض لـ"التلغيم"، وقد تهدم الجزء الخلفي من المنزل جرّاء ذلك. وفي الوقت الذي كان يتفانى فيه في خدمة المصلحة العامة، ولا يأخذ من راتبه إلا النصف، كان الكثير من قيادة الثورة يتآمرون عليه.

  "زايد شبرين: أرى بأن نسجنه!

  أعوج سبر: لا... يحسن أن نخرجه من البلد!

  صالح الجيد: أرى بأن نرسله... في بعثة طويلة الأمد!

  (ثم بخبث ومكر) تحتاجه الدولة في وفد كبير، تحتاجه سفيرا

  حتى يكون صوته العنيد... في أي بلد، إحدى دعائم العهد الجديد

  لكن بعض الزملاء قد لا يرى"(54).

 وبالمقابل تتضح مواقف "العزي محمود" من خلال ردود الأفعال في هذا الحوار، الذي يرى فيه قادة الثورة أن "العزي محمود" يثير الناس عليهم.

 "قاسم: ينقدنا ويثير الناس علينا / وكأنا نحن الأعداء!

  يرفضنا... يرفض كل أوامرنا دون استحياء

  من هو هذا العزي محمود..؟/ من يدفعه للنقد..؟

  قناع أسود: عرَّض بالبعض من الإخوة!

  قناع أحمر: واتهم البعض بسوء استخدام السلطة!

  قناع ملون: وبأن رجالاً لا يدرون الهدف الأسمى للثورة/ وضعوا أيديهم للنهب وللسلب!

  قناع أحمر: حتى صاروا تجاراً في الحرب... (يدخل العزي وأحمد)

  قاسم: أهلاً بالعزي محمود! أهلاً يا أحمد!"(7).

 

وفي موضع آخر تتصاعد الاختلافات بين "الزبيري" وقيادة الجمهوريين، فيبيّتون للخلاص منه نهائياً.

 "قاسم: قد ننجح في الخطة!

 زايد شبرين:... إن لم يسجن هذا العزي محمود/ سندبر حلاً أكثر حزماً وصرامة!

 قاسم:... والعزي محمود ينادي أن نسقط

  أن يتغير هذا الحكم ومن فيه من القادة/ هتفوا ضدي

  ورموني بالتهم الكاذبة المردودة. لن أسكت بعد اليوم"(56).

 ثم تتكشف خطة التآمر حينما يُدفع "العزي" إلى الخروج إلى مؤتمر مدينة "بَرَطْ" لهدفه السابق نفسه، وهو وقف الاقتتال بين الملكيين والجمهوريين، ومحاولة إصلاح النفوس بما يفيد ولا يضر.

 "قاسم: بدأت بتنفيذ الخطة!

 أعوج سبر: أرسلت إلى مجلسه بعضاً مِمَّن تعرفهم...

  وهو وحيد إلا من رأي غير مسلح!

 زايد شبرين: لكن خروج العزي أخطر/ ما رأيك يا أعوج..؟

 صالح: بقايا العائلة المطرودة في المرصاد

  فهي كما أعرف تكرهه أكثر منا.."(57).

 إن النص هنا يؤكد حقيقة تاريخية، وهي تَرَصُّد الملكيين وتآمر بعض الجمهوريين على "الزبيري"، وبالتالي قتله بعد مؤتمر "بَرَطْ" الشهير. من الطرح السابق يتبلور دور النص في تمجيد شخصية "الزبيري" وتقديم أنموذج مثالي للمناضل الثوري، والذي يدفع حياته ثمناً له. ويكاد يكون النص مجرد إعادة صياغة بعض الحقائق التاريخية، وهي حقائق موثقة في الكثير من المراجع على اختلاف تأويلاتها للأحداث نقسها.

 "وفي أوائل 1965 غادر محمد محمود الزبيري... إلى الجبال في الشمال في منطقة برط، حيث شكّل تنظيماً سياسياً عُرف باسم "حزب الله". وكان ذلك التنظيم يهدف إلى العمل من أجل التوصل إلى تسوية سلمية للحرب. وجذب الكثير من الجمهوريين المنشقين... وقد راع الزبيري، الذي كان وزيراً في حكومة الجائفي، حتى استقال في ديسمبر 1964، الفساد المستمر والعجز العام في الأمن، في ظل نظام السلال... كما أفزعه كذلك أن الإصلاحات الموعودة غالباً ما لم تكن توضع موضع التنفيذ... وفي أول أبريل جرى اغتيال محمد محمود الزبيري... وقد أحرج اغتياله كلاً من (ج. ع. م) ونظام صنعاء الجمهوري، ولو أن كلاً منهما كان يتمنى إزاحة الزبيري من الطريق..."(58).

 يتبع الجزء الثاني في العدد القادم

 

  الهـــوامـــــــش:

 (1) د. صالح قادر الزنكي: البعد المصدري لفقه النصوص، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - قطر، سلسة كتاب الأمة، مايو- يونيو 2006، ص40 -43.

  وانظر: فنسنت ليتش: النقد الأدبي الأمريكي... ترجمة محمد يحيى، المجلس الأعلى للثقافة - مصر، 2000، ص256.

  (2) برنار توسان: ما هي السيميولوجيا؟، ترجمة محمد نظيف، أفريقيا الشرق – المغرب، 2000، ص 9 – 10.

  وانظر فهم د.صلاح فضل للنظرية نفسها في كتابه "مناهج النقد المعاصر"، الصادر عن دار أفريقيا الشرق أيضاً سنة 2002، ص 100.

 (3) محمد مندور: الأدب ومذاهبه، دار نهضة مصر، القاهرة، (بدون تاريخ)، ص12- 16

 (4) http://en.wikipedia.org/wiki/Historical_fantasy ترجمة الباحث.

 (5) د.ماريا إلياس ود.حنان قصاب: المعجم المسرحي... مكتبة لبنان ناشرون – بيروت، 1997، ص273.

 (6) علي أدهم: تاريخ التاريخ، دار المعارف، 1977، ص 9.

 (7) لطفي عبد الوهاب يحيى: الحقيقة التاريخية، مجلة "عالم الفكر"- الكويت، فبراير/ مارس 1987، ص175.

 (8) إبراهيم حمادة: معجم المصطلحات الدرامية، دار المعارف - مصر، 1985، ص116.

 (9) محمد الشرفي: موتى بلا أكفان، مكتبة الكاتب العربي - دمشق، 1981، ص140.

 (10) المصدر السابق، ص128.

 (11) الاردايس نيكولا: علم المسرحية، ترجمة: د. نور شريف، الألف كتاب (ج – 5)، (بدون تاريخ)، ص 206.

 (12) المرجع السابق، ص210.

 (13) محمد الشرفي: الانتظار لن يطول، (بدون دار نشر)، 1976، ص 8 - 9.

 (14) أرسطو: فن الشعر، ص111.

 (15) د.إبراهيم حمادة: معجم المصطلحات الأدبية، دار المعارف - مصر، 1985، ص 202 -203.

 (16) جاء قبل بداية هذا النص: "تبدأ حوادث هذه المسرحية في أواخر النصف الأول من العصر الصليحي في اليمن، الذي امتد حوالى مائة عام، وذلك من عام 440 حتى 532 من الهجرة". محمد عبده غانم: الملكة أروى، دار جامعة الخرطوم - السودان، 1976، ص3.

 (17) العماد الأصفهاني: خريدة القصر وجريدة العصر، CDالموسوعة الشعرية، المجمع الثقافي - أبو ظبي، 2003، ص3259.

 (18) محمد عبده غانم: الملكة أروى، مرجع سابق، ص 12.

 (19) المصدر السابق، ص17.

 (20) المصدر السابق، ص19.

 (21) المصدر السابق، ص13.

 (22) المصدر السابق، ص 23.

 (23) المصدر السابق، ص 17.

 (24) المصدر السابق، ص 13.

 (25) المصدر السابق، ص 13.

 (26) المصدر السابق، ص61.

 (27) يقول المؤلف في مقدمة هذا النص إنه كان ينوي أن يكتب دراسة عن أبي الأحرار محمد محمود الزبيري بعد مقتله في 1965، ولكن لظروف شخصية كثيرة... لم يتمكن من إتمام ذلك الجهد. وفي مطلع السبعينيات قرر أن يكتب ما هو أهم من الدراسة، ويقصد هذا النص والنص الثاني الذي سماه «الغائب يعود».

(28) "العزي": الكنية التي يكنى بها في صنعاء كل من كان اسمه "محمد"، وقد اشتهر بهذه الكنية محمد محمود الزبيري.

 (29) محمد الشرفي: الانتظار لن يطول، سوريا، (بدون دار نشر)، 1976، ص 11.

 (30) محمد محمود الزبيري، اختلف المؤرخون في تاريخ ميلاده؛ منهم من قال إنه ولد سنة 1918، ومنهم من يقول إنه ولد عام 1910. كما جاء في موقع:

  http://www.asmarna.org/al-moltqa/archive/index.php/t-6113.html

  http://www.hdrmut.net/vb/t160862.html : ولد في صنعاء عام 1918، واستُشهد عام 1965. انظر موقع:

  http://www.asmarna.org/al-moltqa/archive/index.php/t-6113.html.

 (31) المصدر السابق، ص 1.

 (32) المصدر السابق، ص15.

 (33) المصدر السابق، ص21.

 (34) مجموعة من الكتّاب السوفييت: تاريخ اليمن المعاصر، ترجمة: محمد علي البحر، مكتبة مدبولي - القاهرة، 1982، ص74.

 (35) المصدر السابق، ص33.

 (36) انظر: http://www.al2bda3.com

 (37) مجموعة من الكتّاب السوفييت: تاريخ اليمن المعاصر، مرجع سابق.

 (38) محمد الشرفي: الانتظار لن يطول، مصدر سابق، ص24.

 (39) المصدر السابق، ص36.

 (40) المصدر السابق، ص 38 - 39.

 (41) المصدر السابق، ص 117- 118.

 (42) المصدر السابق، ص132- 134.

 (43) المصدر السابق، ص152.

 (44) المصدر السابق، ص 174.

 (45) محمد الشرفي: الغائب يعود، مطبعة العلم - سوريا، 1976، ص 5.

 (46) انظر:

 http://www.islamonline.net/arabic/famous/2003/10/article01.SHTML

 (47) محمد الشرفي: الغائب يعود، مصدر سابق، ص 8

 (48) المصدر السابق، ص17.

 (49) المصدر السابق، ص18.

 (50) معروف أن العون العربي للثورة لم يكن إلا من مصر، بجيش استمر منذ بداية الستينيات إلى عام 1967.

 (51) المصدر السابق، ص41.

 (52) http://www.arab.de/arabinfo/yemenhis.htm، ترجمة الباحث.

 (53) محمد الشرفي: الغائب يعود، مصدر سابق، ص49- 52.

 (54) المصدر السابق، ص75.

 (55) المصدر السابق، ص81- 82.

 (56) المصدر السابق، ص 117.

 (57) المصدر السابق، ص 135- 136.

 (58) ادجار أوبالانس: اليمن الثورة والحرب، مكتبة مدبولي - القاهرة، ص 242- 243.