العدد الخامس - صيف 2008م

   
 

دراسات
 

قصيدة النثر وحجاب التلقي: الحجاب والجدار (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

د. حاتم الصكر

لعل أبرز إشكالات قصيدة النثر وسوء قراءتها يأتي من دورها في تلخيص سؤال الحداثة ومصيرها، وبلورة فعل التحديث بعد سلسلة رضّات ومحاولات تجديد لامست شكل القصيدة غالباً، أو تطوير أغراضها ومعانيها. لكن مقترح قصيدة النثر تجاوز تلك المهمة التطويرية (تحريك الأغراض والمعاني)، والتجديدية (الشكل الخارجي للقصيدة)، إلى جوهر الكتابة الشعرية من حيث هي معرفة وصلة بالعالم عبر وعي خاص ومختلف، وبرؤية تحديثية تنسف تماماً كل ما استقر في ذخيرة القراءة ذاتها من تصورات عن مفاهيم الشعر وتشكلاته البنائية وعلاقته بالأجناس الأخرى، وفي المقدمة منها قسيمه (نقيضه) الأزلي: النثر     

من هنا سينشأ ذلك الحجاب الذي تنبه إليه شاعر غير مؤثر على صعيد النسل الشعري في جماعة «شعر»، هو جبرا إبراهيم جبرا، الذي رأى، متوافقاً مع عبارات هيوم، وجود حجاب بيننا وبين وعينا، فكان على قصيدة النثر، لا التنبيه على الوعي الجديد بالشعر فحسب، بل إلى ضرورة وجود وعي شامل داخل ذات المتلقي وجهازه القرائي.

إن وجود الشاعر في العالم، والقصيدة في الشعر، والنثر في القصيدة، ليس تراتباً رأسياً يتم بعفوية في التسلسل الآنف، بل هو تلازم وجودي يشترط كل عنصر منه وجود الآخر كضرورة لوجوده

 إن الحجاب المفترَض يوصَف بالجدار أحياناً؛ لأن الحجاب يشف والجدار يعزل، والحجاب يقترح صلة بصرية بينما الجدار يحجز ويمنع أي شكل للصلة. فالحجاب يغري بمغامرة التعرف والتواصل، فيما يلغي الجدار وجود الشيء ولا يمنحه حيزاً في التصور...

 ومما يزيد هذا الجدار الحاجب كثافةً مقدرةُ قصيدة النثر على أن تتمدد وتتسع خارج الشعر، والجدل حول ماهيته، وصولاً إلى وجوده ذاته وكيفياته الممكنة، وضمناً حول الحرية والموت والعدل والإنسانية عامةً، فكان سؤال الوجود واحداً من أبرز الأسئلة التي تقدمت بها لتجاوز ذلك الحجاب الجداري المفترض. فهي إذن لا تتحدد بالمهمة الشعرية للشعر، بل تُعنى باكتشاف العالم ومواجهته ورفضه. وعلى أساس هذه المناكفة والمناوأة سيتحدد موقع شاعر قصيدة النثر نفسه، فتكون قصيدة النثر، بتعبير واحد من كتّابها الأوائل ومشاغبيها المبكرين (أنسي الحاج): عمل شاعر ملعون ونتاج ملاعين وبنت عائلة من المرضى(1).

 اللعنة والمرض هما تسميتان مشاكستان وصادمتان لمظهر من مظاهر الوعي الوجودي الممكن بالقصيدة النثرية، وتجسيد لكونها تجربة داخلية ولانهائية تكمل القانون الحر لقصيدة النثر، الذي يستلزم وجود الشاعر الحر أيضاً.

 وهكذا تتسلسل دورة وجود متلازمة قوامها التغير:

 عالم متغير...

  شاعر متغير...

 شعر متغير...

 قصيدة نثر(2).

إن وجود الشاعر في العالم، والقصيدة في الشعر، والنثر في القصيدة، ليس تراتباً رأسياً يتم بعفوية في التسلسل الآنف، بل هو تلازم وجودي يشترط كل عنصر منه وجود الآخر كضرورة لوجوده. فالعالم المتغير باتجاه الحرية يستلزم وجود شاعر مماثل في رغبة التغير، وكذا وجود الشعر خارج قوانين الثبات والتحجر، ثم ولادة قصيدة النثر شكلاً ذروياً ونتيجة حتمية أو متوقعة لذلك الوجود في سلسلة المتغيرات.

 ولكن تلك المهمة المعرفية المتسعة عن المهمة التقليدية للشعر، والمتباعدة عنها في الهدف والتكوين اللغوي والإيقاعي والدلالي، ليست فنية فحسب يتعهد الشاعر بإنجازها، بل هي مهمة جمالية أيضاً تبرز بحدة على مستوى التلقي، لأنها تثير أسئلة القراءة الحديثة أيضاً، وتلتفت إلى جملة من الثنائيات بصدد الشعر، كاللغة إزاء لغته، والمعنى إزاء دلالته، والواقع إزاء سياقه، والموسيقى إزاء إيقاعه، والجمهور إزاء متلقيه؛ لتنبني عليها ثنائيات أخرى ذات موقع مهم في النظرية الشعرية، كالنوع المعزول والأنواع المتآزرة، والشعر والقصيدة، والقصيدة والسرد، والتفاعل والانفعال، والقراءة المحدودة والتلقي الحر، و»أنا» الشاعر و»أنا» القارئ... وسواها مما لم يكن على لائحة النقد النظري العربي المنشغل تاريخياً بثنائيات تقليدية، كاللفظ والمعنى، والنثر والشعر، والالتزام والحرية، والفرد والمجتمع، والموسيقى الخارجية والداخلية... وغيرها من المحددات والمظاهر المشيرة إلى البقاء ضمن الدائرة المتصورة مفاهيمياً عن الشعر كتعبير وانعكاس لغوي وصوري عن الجماعة، وما كوّنته عن طبيعة الشعر أو وظيفته وأشكاله.

 ولكن الاهتمام المتأخر بالذات القارئة وماهيتها يجيب على أسئلة وجود الحجاب على مستوى التلقين. فالفرد يصبح مخزناً أو مستودعاً للتجارب التي بتكرارها ضمن النوع نفسه تصنع ما يعرف بـ»أفق الانتظار أو التوقعات»، الذي يشير إلى نظام ذاتي مشترك أو بنية من التوقعات ونظام من العلاقات وجهاز عقلي يستطيع قارئ افتراضي أن يواجه به أي نص(3)، وهو ما يحدده «آيزر» حين يتحدث عن توجهات ذات القارئ الذي يحاول من خلالها توفيق تجربة النص الحالي غير المعروفة حتى الآن مع مخزونه الخاص من تجارب الماضي(4).

 بهذا المقياس تصبح القراءة حجاباً، لأنها تحتكم إلى ما استقر بالتكرار النوعي والنصي. فالنصوص تنزع في العادة غريزياً إلى تأكيد انتمائها النوعي إلى الشعر بإعادة اشتراطاته ومزاياه. بينما يقيم المتلقي حجاب وعيه، مستنفراً ذخيرته ومعرفته بالشكل كما وقر في نفسه وشكّل تصوره عنه بتجربته القرائية المتصفة بالتماثل، لأنها جزئية، وجمعية، وذات جذر شفاهي، تقايس على موجود، وليس على المنخلق حديثاً من معدوم غير متعين في الذاكرة؛ وذلك سيجعل الحجاب جداراً يعترف بالعجز عن مواجهته دعاة قصيدة النثر الأوائل(5).

 وسنرى بصدد قصيدة النثر، وشرعيتها خاصة، أن الاحتكام قد تم إلى التلقي العام لها(6)، لا الخاص المرتبط بتغير الأفق وتعديل موضع القراءة، وهو ما يمكن أن يوجد في التلقي النقدي حين تكون قراءة الناقد الخاصة هي المعوّل عليها.

 ولكن التعارضات بين التلقي والقصيدة النثرية ستنشأ كذلك من مقومات ذاتية خاصة بالقصيدة، وأخرى موضوعية تتصل بسياقات التلقي وموضع أو موقع المتلقي. القارئ التقليدي الذي نحاول استعارة وصف محمد العباس للذائقة وصفاً تقريبياً لذائقته (أي ذائقة القارئ)، فهي تنمو في ظل وعي مسيّج بالروادع والزواجر والخوف والتوتر وبؤس الحساسية(7).

 فمن التعارضات الذاتية يرد اسم قصيدة النثر ومصطلحها المستفز والقائم على جمع متنافرَين في ذاكرة القارئ: الشعر، والنثر؛ حتى لتصبح مقولة: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»، بلسان شاعر من جيلٍ تالٍ هو عباس بيضون، ذات صيغة تساؤلية: هل الشعر شعر والنثر نثر ولن يلتقيا(8)؟

 وكما لاحظ الغربيون أنفسهم فإن مصطلح القصيدة النثرية المترجم عربياً (قصيدة النثر) شاع واستقر بما اشتمل عليه من خطأ، رغم أنه مقلق. وغير دقيق، وتراجع عنه مجترحوه أنفسهم(9)، لأنه قائم على اتحاد المتناقضات كما يتصورها المتلقي، وذلك لا يعكس حقيقة الكتابة الشعرية الحديثة التي انضوت تحت هذا التصنيف، لأنها لا تؤاخي أو تجمع الشعر والنثر، بل تستثمر ما في النثر من استرسال وطلاقة وسعة، لتجد فيه ما هو شعري، فيكون المجيء إلى النثر من منطقة الشعر والجذب إليها لا خارجها.

 وعلى هذا الخلط الاصطلاحي نشأ الخلط الأخطر في المفهوم، فاكتسب الجدار التقبلي صلابةً وازداد كثافةً وسُمكاً، وصار السؤال عن حقيقة شعرية قصيدة النثر لا عن شرعيتها فحسب. وتكرس ذلك المأزق التقبلي بسؤال الشكل الذي يصفه «ميشيل ساندرا»، في كتاب حديث عن قراءة قصيدة النثر، بأنه شكل متناقض يدعو إلى السؤال عن كنهه المتمثل في اتحاد المتناقضات(10)، وهو اتحاد لا يتقبله المتلقي بيسر، كما ستزعجه مؤاخاتها السرد والشعر، واقتراض القصيدة آليات القص كالتسميات والشخصيات والأمكنة والأزمنة ووصف العاديات والحوار وغيرها... مما أربك المنظور القرائي لمتلقٍ لم يتكيف مع الاسترسال المتاح شكلياً فيها، وكذلك لم تتشكل مخيلته على أساس هذه التعيّنات والتجسّدات السردية، رغم أنها مجتلبة، لا بطابعها القصصي بل بتوظيفها، لتعزيز الشعر في القصيدة ومجافاة الغنائية والتهويم الصوري والشعوري المجرد، وتعتمد الاتكاء على المحكي لإبراز نبرتها الشعرية دون الالتزام بالانضباط السردي على مستوى ضمائر السرد ومواقع الرواة ووجهات النظر وسواها من مستلزمات السرد التقليدية.

 وتأتي الخلخلة في التلقي من جهة أخرى في تقنيتها. فقصيدة النثر تتقدم بمزاج جديد يوصف بأنه قائم على السخرية (المتخذة شكل المحاكاة الساخرة...)(11). وذلك ينعكس على هيئتها الخطية وتشكلها الجسدي على الورق؛ فهي تقترح السطر بدل البيت، وتشيع ما يسميه كمال خير بك: «النمط الفوضوي في التنقيط والتوزيع وتمزيق وحدة الجملة»(12). ونضيف إليها توزيع النص نفسه بطريقة عبثية، كأن تتوازى الفقرات بجانب بعضها أو تبدأ من يسار الصفحة نزولاً إلى أسفلها، أو تنقطع بالصور والتخطيطات والإشارات؛ مما يوقع المتلقي النسقي في حيرة وارتباك لأنه لا يجد الوضعية الممكنة للاتصال بالنص ومتابعة نموه وتصاعد بنيته.

  ولكن ذلك صار جزءاً من تكوين القصيدة ذاتها، وهو ما سيدعو المتلقي النقدي المتخصص بقراءة الشعر للانتباه للعتبات والموجهات المتحكمة في قراءة القصيدة، كالعناوين وطاقاتها الدلالية وتناصاتها والفواصل والفراغات والبياض وسواها.

 وتنضاف لتلك الحجب الجدارية لغة قصيدة النثر، القائمة على مغايرة للأنساق المعروفة في التراكيب والأساليب. فالاستفهام مثلاً يأتي معكوساً كما في بيت أنسي الحاج:

 تجيئين، كيف لا أبالي بك(13)؟!

 فقد أصبحت الجملة ثلاثية التركيب أسلوبياً:

 خبرية: تجيئين.

  استفهامية مبتورة بسبب تأخير الأداة: كيف؟

 منفية: لا أبالي بك.

 فيما يريد الشاعر الاستفهام والنفي اللاحق فقط.

 ويمكن التمثيل لهذه الاختراقات اللغوية في مواضع كثيرة من قصائد النثر، لدى أنسي الحاج كما رأينا، ولدى آخرين من شعراء قصيدة النثر(14). 

 وعلى مستوى الإيقاع تنشأ مشكلة تلقٍّ كبرى لعلها من أكثر المشكلات الاتصالية حدةً. فالمتلقي يقوم بفعل القراءة بحثاً عما يؤكد مفهومه للشعر وموسيقاه، المتحصلة تحديداً من الوزن، وموسيقاه التي تعززها أنظمة التقفية في نهايات الأبيات الشعرية للقصائد، حرةً أم عمودية. وهذا المقترح الإيقاعي غير المتعين بحدود ذات ملموسية، كالجهاز العروضي الجبار والمكتمل والمنضبط، لا يدخل في الثقافة الموسيقية للمتلقي؛ فيقوم الجدار ثانية على أساس هذه المخالفة التي تعترض حتى ذائقة قارئة خاصة وشاعرة كنازك الملائكة، التي تصف ذلك بطريقة مفصلة وبسيطة: «بعض المطابع تصدر كتباً تضم بين دفّاتها نثراً طبيعياً مثل أي نثر آخر، غير أنها تكتب على أغلفتها كلمة «شعر»، ويفتح القارئ تلك الكتب متوهماً أنه سيجد فيها قصائد مثل القصائد، فيها الوزن والإيقاع والقافية، غير أنه لا يجد من ذلك شيئاً، وإنما يطالعه في الكتاب نثر اعتيادي... وسرعان ما يلاحظ أن الكتاب خلو من أي أثر للشعر، فليس فيه بيت ولا شطر، وإذن لماذا كتبوا على الغلاف إنه شعر؟»(15).

 تلك الخلخلة العميقة لمنظور المتلقي وأفق انتظاره المخيب، بما تهبه نصوص قصيدة النثر من صدم لتوقعاته التي لخصتها نازك في الاستشهاد السابق، ستكون من المعيقات الأساسية في عملية تلقي قصيدة النثر؛ فالفجوة بين المتوقع من توجيه مصطلح «شعر» و»قصيدة» وما تقدمه النصوص الحديثة، ستتعمق بالمغايرة والتجاوز والتخطي التي صارت لافتات وشعارات اكتسبت في الخطاب الجديد (وهو خطاب يسهم في صياغته الشعراء أنفسهم، لاسيما أدونيس وأنسي والخال) قدسية تماثل شعارات السياسي. بل سيكون لهذا الخطاب، كما للقصائد ذاتها، محمول سياسي خاص يركز على الحرية ويربطها بالتدمير. فيتحدث يوسف الخال في مقالات مبكرة عن «الطغيان السياسي في مجتمعاتنا العربية»(16). ويرى أُنسي أن التدمير أو التخريب من أول واجبات الشعر(17)، ويصفه بأنه حيوي ومقدس لمواجهة الشاعر الرجعي والقارئ الرجعي. ولا يمكن للتلقي العام أن يفك ارتباط كلام كهذا عن خطاب ليبرالي سائد في زمن صعود المد اليساري والقومي، والنظر إلى مثل هذه الدعوات بريبة وشك يصلان مستوى التخوين أحياناً، فأصاب المتلقين الخوف من هدف المشروع كله، ومن استراتيجيات النصوص المنتمية لقصيدة النثر ما تشيع من أجواء الحرية المفتقدة على مستوى المخيلة واللغة والدلالة أيضاً.

 وسوف يقترن الكفاح السياسي ضد قصيدة النثر، من القوميين واليساريين، بالشعارات السائدة، لاسيما صلة الشعر بالجمهور، الذي يسخر منه الخال حين يمثل للشاعر الذي يصبح بسهولة «محبوب الجماهير» ومن بينهم المراهقون، وينسب للشعر الموزون المقفى التلاعب بعواطف الناس(18). ولكن الحلقة الأهم في هذا التباعد عن مفهوم الجماهير والحاجة للشعر ودوره ووظيفته، ذلك الجدل حول الغموض والعسر والانغلاق، الملتصقة في عملية التلقي بالنماذج المتاحة من قصيدة النثر. ويرى الخال -متابعاً إليوت- أن ذلك اعتقاد مسبق يضع القارئ في جو معيق(19)، أي أن الغموض ومرادفاته ليست من جماليات النص الحديث، بل من أوهام المتلقي قبل التماس المباشر مع النصوص. وهنا تبرز أزمة التناقض في الخطاب النقدي لجماعة «شعر»، خاصة حيث يكون الغموض في أدبياتهم أحياناً ميزة للنصوص الحديثة ويعزون القصور للمتلقين في عدم فهمها. بينما يذهب الخال إلى نفي الغموض ذاته، ناسباً توهم وجوده إلى فكرة مسبقة لدى المتلقين عن تلك النصوص.

 وليست هذه التناقضات وحدها تتحكم في الخطاب النظري لدعاة قصيدة النثر من روادها الأوائل، فالصلة بالجمهور ذاتها تتسم بذلك التناقض، فكيف نفسر محاولة تقريبهم اللغة الشعرية من لغة الشعب -يتساءل كمال خير بك- وهم يزيدونها غموضاً في النصوص(20)؟ وسيتضح ذلك التناقض بحدة حين تشيع الدعوة للكتابة بالعامية المحكية وإدخالها قبل ذلك في قصائد النثر.

 ومن التناقضات نذكر الموقف من التراث، قبولاً ورفضاً، ومن الغرب الذي سيصبح من ينابيع التجربة الحديثة. وربما مثّل بيان الحداثة لأدونيس (1979) ذروة ذلك التناقض في المسألتين، من حيث فك ارتباط الحداثة بالزمن، ليندرج فيها شعراء وقصائد من عصور ماضية، ومؤاخاة الغرب دون الموافقة على التعارض بين الشرق والغرب. ولكن البيان نفسه يعيب على الشعر العربي المعاصر ظاهرة «التأسلف» (أي انشداده للماضي والقوالب المنمطة والمستقرة، وكذلك لما يسميه «التمغرب» أي الانطلاق من الإحساس بتفوق الغرب والاستلاب إزاء منجزه (21). ولكن البيان نفسه يمثل، متباهياً ومحرضاً، باختراق الشعراء الغربيين لتراثهم وارتكازهم على ثقافات أخرى(22)، وهذا يوضح الارتباك وعدم تبلور نظرة أو رؤية كافية لهذه المسألة المعرفية خارج إطارها الشعري؛ أعني صلة النص فحسب بالتراث والغرب.

 ولقد امتلك كتّاب قصائد النثر الشجاعة الكافية لنقد ذواتهم في مراحل مختلفة(23)، كنقد أدونيس لكيفية فهم الشعراء لحداثة الغرب واقتصارها في الوعي العربي على ما تضمنته من أبنية وتشكيلات لغوية دون رؤية الأسس النظرية والعقلية الكامنة وراءها، أو بارتباطها العضوي بالحضارة الغربية.

 ولكن ذلك لم يخفف من ثقل جدار التلقي وإزالة سوء الفهم والقراءة، ويمنح الطمأنينة للمتلقي بصدد قصيدة النثر التي -إلى جانب عدم تغيير أفق تلقيها بما يلائم فرضياتها النظرية وأسسها الإيقاعية وطبيعتها النصية- عانت من عيوب داخلية يمكن أن نسمي منها: تضخيم الذات وتكبير الـ»أنا» وتجسيمها، وتعالي خطابها على المتلقي وافتراض جهله غالباً، وتداخل المهمات والمطامح الفنية/ الشعرية بالواجبات الاجتماعية. فمن حيث أراد كتّابها رفض المهمة الاجتماعية وإصلاح الواقع بالشعر، قاموا بنقد مجتمعاتهم وأسندوا للقصيدة مهمة التغيير والبناء. ومن حيث رفضوا مفهوم الجماعة وانضواء الشاعر كفرد تحت مسمياتها، راحوا يعبرون عن كونهم ممثلي الضمير المعاصر والحياة الجديدة.

 إن خطاب قصيدة النثر سيظل مصطدماً بجدار التلقي، وكذلك نصوصها، ما لم يلتفت المتلقي إلى خصائصها النصية، ويعدل أفق تلقيه وتحليله وفحصه لها وفق كليتها أولاً، وتلازمها العضوي الكامن وراء ما يبدو أنه فوضى بنائية، وملاحقة ما تولّد من إيحاءات ودلالات لا المعاني المباشرة، وكونها قصيدة قراءة تخاطب عبر جسدها الورقي عين المتلقي لا حواسه الأخرى، وبذا تتشكل عيانياً لا سمعياً أو موسيقياً، وأن لها مفاتيح قراءة وجماليات لغوية وتصويرية وإيقاعية جديدة مستفيدة من السرد والفنون المجاورة للشعر.

  لكن عوامل كثيرة تتداخل في إعاقة التواصل التقليدي مع قصيدة النثر والتقبل الكامل لنماذجها كما يعكسه التكتل الذوقي الذي يعبر عنه الجمهور. ولكن الرهان الآن على القارئ الفرد، لكون قصيدة النثر تجربة فردية، وعلى القصيدة ذاتها وما تنجزه الأجيال الجديدة في تعديل قوانين الشعر وأنساقه ولغته وإيقاعاته، حتى ليعزو النقاد اغترابها إلى شبابها(24)، قياساً إلى ضخامة الجسم الشعري العربي ومتانته المتكونة عبر القرون التي كتبت بها القصيدة بالنمط التقليدي الذي صار جزءاً من هوية وشخصية وميراث، يغدو الخروج عليها مروقاً، كما أن التمسك بها أصالة ووطنية. وكذلك الموقف من اللغة الشعرية المجسد في اعتراض شعراء الجيل الثاني في الحداثة على ما أسماه عباس بيضون في تقديمه لأعمال أمجد ناصر الشعرية، «السيولة اللغوية... التي تستحضر اللغة كلها والقاموس كله» بمقابل اللغة المحدودة والجزئية التي لا تنتشر سديمياً بل تتكون بؤرياً وحوارياً متمثلة في ما يقدمه من يسميهم بيضون شعراء الطور الثاني في القصيدة الحديثة(25)، وهو ما وصفه «سركون بولص» في ملاحظات ختامية على أحد دواوينه «الوثبة الشعرية التي تريد أن تعبر بالقول إلى الجهة الثانية من الكلام»(26). بينما يظل موقف المتلقي عند الجهة الأولى التي تنتج فيها اللغة صوراً ومجازات تصطف تجاورياً لتؤدي المعنى، ولا تخدم الدلالات التي وصفناها بالاتساع والتمدد في القصيدة النثرية. وإذا كان «سركون» يصف، في ملاحظاته تلك، يوسف الخال بالأب، وأدونيس بسيد الهجرة في أقاليم الليل والنهار؛ فإنه يؤكد استمداد الأجيال التالية من تجربة الرواد، الأمر الذي يعقّد موقف التلقي؛ حيث يكون على المتلقين التواصل أيضاً مع تجربة الجيل الأول وصولاً إلى تطويرها وبث الحيوية فيها لدى الجيل الثاني، وإغنائها موضوعياً في شعر الأجيال التالية المتكونة في مناخ لا جدلي وغير صراعي؛ إذ بدؤوا كتابة قصيدة النثر بعد أن استقر موقعها في الشعرية العربية المعاصرة، رغم عدم حسم كثير من إشكالاتها الفنية وإيقاعاتها بوجه خاص، وتباين الموقف النقدي منها بشكل حاد، رفضاً وقبولاً(27).

 وربما زاد الموقف النقدي من تعقيد عملية التلقي. حيث يقترح ناقد مثلاً قراءة قصيدة النثر بكونها جنساً ثالثاً عابراً للأنواع إلى جانب الشعر والنثر(28). وذلك يؤجل تحقق التلقي المنشود، ويرهنه ببلورة هذا الجنس الإبداعي المقترح الذي عانى الضبابية والغموض، كمصطلح ومفهوم، وهو نوع ضمن جنس الشعر بأعرافه الراسخة في التلقي، فكيف ستتم الصلة به بناء على هويته السرابية المقترحة؟

 إن السعي لخرق جدار التلقي لا يؤتي نتائجه سحرياً، بل باكتمال التفتح الثقافي والمعرفي للقراء، والارتقاء بفعل القراءة بعيداً عن الاجترار والتقليد، والاعتقاد بخصوصية القصيدة وسط الكيان الشعري الكبير الذي يلتهم وجودها لصالح وجوده، ويلقي بها إلى حكمة جمهوره الذي يصد كل تغيير ينال البنى والهيئات التي استقرت في ذاكرته.

  وإذا ما تحققت ظروف التلقي المناسبة والإعداد والتأهيل المطلوب للقارئ، فستجد قصيدة النثر مناخاً مناسباً للتواصل والتفاعل مع نصوصها وخطابها؛ ولكنها لن تجد القبول المطلوب في سياق القراءة التماثلية التي تحتكم إلى الثوابت التي قامت قصيدة النثر أصلاً -وبجهود نصية متلاحقة من أجيال شعرائها الجدد- على هدمها والخروج عليها(29).

   

 

الهـــوامـــــــش:

 (1) أنسي الحاج: لن، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1982، ص21.

 (2) نفسه، المقدمة، ص19.

 (3) روبرت هوليب: نظرية التلقي- مقدمة نقدية، ترجمة: الدكتور عز الدين إسماعيل، النادي الأدبي الثقافي بجدة، 1994، ص156.

 (4) فولفجانج إيزر: فعل القراءة – نظرية في الاستجابة الجمالية، ترجمة د. عبدالوهاب علوب، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص162.

 (5) (أمام جدار اللغة تقف حركة الشعر الحديث) يوسف الخال: الحداثة في الشعر، دار الطليعة، بيروت 1978، ص82..

 (6) رشيد يحياوي: الشعري والنثري- مدخل لأنواعية الشعر، اتحاد كتاب المغرب، 2001، ص52.

 (7) محمد العباس: ضد الذاكرة - شعرية قصيدة النثر، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، 2002، ص29.

 (8) عباس بيضون: نقلاً عن محمد العباس، ضد الذاكرة، ص55.

 (9) فصلت ذلك في كتابي «ما لا تؤديه الصفة»، دار كتابات، بيروت 1993، ص33 وما بعدها. وثمة إشارات إلى نقد أدونيس لمصطلح «قصيدة النثر» الذي يقول إنه هو نفسه من اقترحه، ويستبدل به في التقديم الموجز لأعماله الشعرية مصطلح «كتابة الشعر نثراً»، ولا يستقر عليه. ينظر: الأعمال الشعرية الكاملة، ط4، بيروت 1985، ص5 وما يليها.

 (10) ميشيل ساندرا: قراءة في قصيدة النثر، ترجمة: د. زهير مجيد مغامس، وزارة الثقافة، صنعاء، 2004، ص118.

 (11)      نفسه، ص165.

 (12)      كمال خير بك: حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، ترجمة: لجنة من أصدقاء الكاتب، دار الشرق، بيروت، 1982، ص150-151.

 (13)      أنسي الحاج: مرجع سابق، وفيه نماذج كثيرة لهذه الكتابة القائمة على تقطيع متعمد للجملة.

 (14)      يدرس الظاهرة بتفصيل وتمثيل كمال خير بك، ويعدها من الملامح الجديدة في كتابة القصيدة، مرجع سابق ، سابق، ص 150 وما بعدها.

 (15)      نازك الملائكة: قضايا الشعر المعاصر، ضمن الأعمال النثرية الكاملة، الجزء الأول، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002، ص189.

 (16)      يوسف الخال: مرجع سابق، ص11.

 (17)      انسي الحاج: مرجع سابق، ص14.

 (18)      الخال: مرجع سابق، ص97.

 (19)      نفسه، ص82.

 (20)      كمال خير بك: مرجع سابق، ص115.

 (21)      أدونيس: بيان الحداثة، ضمن كتاب «البيانات»، تقديم: محمد لطفي اليوسفي، سراس للنشر، تونس، 1995، ص24.

 (22)      نفسه، ص27

 (23)      نفسه، ص58. في الملحق المكتوب للبيان الأول بعد ثلاث عشرة سنة.

 (24)      محمد العباس: مرجع سابق، ص84.

 (25)      عباس بيضون: سندباد بري- مقدمة للأعمال الشعرية، أمجد ناصر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت –عمان، 2002، ص13-14.

 (26) سركون بولص: إذا كنت نائماً في مركب نوح، دار الجمل، كولونيا، 1998، ص153.

 (27)      ما زال هناك من يصف قصيدة النثر بأنها جلطة أصابت قلب القصيدة، وأنها نوع مخاتل، ومجرد كلام، ومطية لمستسهلي الشعر، ومحض بلبلة وفوضى... تراجع مادة قصيدة النثر في موقع google على الانترنت مثلاً. بينما يرى آخرون أنها قصيدة المستقبل وأن ارتباط الحداثة وقصيدة النثر من البديهيات النقدية. دراسة مالك المطلبي: باتجاه الشعر الحداثي، مقدمة لديوان «إشارات مقترحة» لنصير فليح، الاتحاد العام للأدباء والكتَّاب في العراق، بغداد، 2007، ص3.           

 (28)      د. عزالدين المناصرة: إشكاليات قصيدة النثر - نص مفتوح عابر للأنواع، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت – عمان، 2002.

 (29) في كتابي، «حلم الفراشة – الإيقاع الداخلي والخصائص النصية في قصيدة النثر»، وزارة الثقافة، صنعاء، 2004، نماذج وتحليل واستنتاجات بصدد نصوص الأجيال اللاحقة في الكتابة الجديدة بقصيدة النثر ومنها نصوص لأمجد ناصر وعباس بيضون وجان دمو وسركون بولص وزكريا محمد وصلاح فائق ومحمد حسين هيثم وعلي المقري ولينا الطيبي وباسم المرعبي وسواهم.