العدد الثامن - صيف 2009م

فصلية تعنى بالكتابة الجديدة

   
 

دراسات

 الرواية العراقية الجديدة
المنفى، الهوية، اليوتوبيا
 (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

د. عبد الله إبراهيم

1. مدخل

     يمثل أدب المنفَى ظاهرة مميزة راح يتنامى حضورها في آداب الأمم التي خضعت للتجربة الاستعمارية، أو مرّت بظروف الاستبداد السياسي أو الديني. وتشكّل الكتابة السردية لبّها الجوهري. ويطفح أدب المنفى برغبات الاشتياق، والحنين، والقلق، وهو مسكون بفكرة إعادة كشف موقع الفرد في وطنه، وفي منفاه، على حدٍّ سواء؛ لأن المنفَى  يكرّس عجزا عن الانتماء إلى أي من العالمين المذكورين، وتعذّر الانتماء، يقود إلى نوع من الترفّع الفكري، والرهبنة الروحية، والعقلية، وذلك قد يفضي إلى العدمية أحيانا، حيث تتلاشى أهمية الأشياء، فتنهار صورة العالم في أعماق المنفِيّ، ولكن قد تظهر حالة مناقضة، فالمنفيون الكبار، عبر التاريخ، هم الذين أوقدوا شرارة الأمل في نفوس شعوبهم، وألهموها فكرة الحرية، وقادوها إلى شواطئ الأمان، فالمنفيُّ ما إن يتخطّى الذاتية المغلقة إلا ويصبح كائنا عالميا يتطلع إلى تغييرات شاملة..والمنفيون ينظرون إلى غير المنفيين نظرة استياء وسخط. فهم ينتمون إلى محيطهم، أما المنفِيّ فغريب على الدوام. يقضي معظم حياته في التعويض عن خسارة مربكة بخلق عالم جديد يبسط سلطانه عليه(1).          

    يتصف أدب المنفى بأنه مزيج من الاغتراب والنفور المركّب؛ كونه نتاجا لوهم الانتماء المزدوج إلى هويتين، أو أكثر، ثم، في الوقت نفسه، عدم الانتماء لأي من ذلك، فهو يستند، في رؤيته الكلية، إلى فكرة تخريب الهوية الواحدة والمطلقة، وبصفته تلك فهو أدب عابر للحدود الثقافية، والجغرافية، والتاريخية، ويخفي في طياته إشكالية خلافية، لأنه يتشكّل عبر رؤية نافذة، ومنظور حاد يتعالى على التسطيح، ويتضمن قسوة عالية من التشريح المباشر لأوضاع المنفِيّ، ولكلِّ من الجماعة التي اقتُلع منها، والجماعة الحاضنة له، لكنه أدب ينأى بنفسه عن الكراهية، والتعصّب، ويتخطّى الموضوعات الجاهزة، والنمطية، فيعرض شخصيات منهمكة في قطيعة مع الجماعة التقليدية، وفي الوقت نفسه، ينبض برؤية ذات ارتدادات متواصلة نحو مناطق مجهولة داخل النفس الإنسانية، ويقترح أحيانا يوتوبيات حالمة موازية للعالم الواقعي.

    وتشكل قضية تخيل الأوطان، والأمكنة الأولى، واليوتوبيات، البؤرة المركزية لأدب المنفى، فثمة تزاحم بين الأوطان والمنافي في التخيلات السردية التي يكتبها المنفيون. ولكن مَنْ هو المنفِيّ الذي ينتدب نفسه لهذه المهمة، أو يُجبر عليها، فيخوض غمارها؟. يُعرف المنفيُّ بأنه الإنسان المنشطر بين حال من الحنين الهوسي إلى المكان الأول، وعدم القدرة على اتخاذ القرار بالعودة إليه، وينتج هذا الوضع إحساسا مفرطا بالشقاء لا يدركه إلا المنفيون الذين فارقوا أوطانهم، ومكثوا طويلا مبعدين عنه، فاقتُلعوا عن جذورهم الأصلية، وأخفقوا في مدّ جذورهم في الأمكنة البديلة. فخيّم عليهم وجوم الاغتراب، والشعور المريع بالحس التراجيدي لمصائرهم الشخصية، إذ عَطِبَتْ أعماقُهم جرّاء ذلك التمزّق، والتصدّع، وقد دفع الحنين إلى المكان الأول رغبة عارمة لاستدعاء الذكريات الممزوجة بالتخيلات، فالمنفيّ، وقد افتقد بوصلته الموجِّهة، يستعيد مكانا على سبيل الافتراض ليجعل منه مركزا لذاته، ومحورا لوجوده، فيلوذ بالوهم الحالم بحثا عن توازن غائب. فهو يحكم سيطرته على المكان المفقود عبر سيل من الذكريات المتدافعة في سعي للعثور على معنى لحياته، فيتوارى المنفى مكانا يعيش فيه الآن، ويحضر الوطن زمانا كان فيه من قبل. وفي اللغة العربية تحيل مشتقات الفعل "نفى" على دلالة واحدة مترابطة الأطراف، هي: الإبعاد، والتنحية، والطرد، والإخراج، والتغريب، والذهاب، والانتفاء، والانعدام. وجميعها تؤكد حال الانبتات، والانقطاع، والاجتثاث، وعدم المُكنة على التواصل، والعجز عنه.

     ليس المنفَى مكانا غريبا، فحسب، إنما هو مكان يتعذّر فيه ممارسة الانتماء، لأنه طارئ، ومُخرَّب، ومُفتَقر إلى العمق الحميم، وهو يضمر قوة طاردة في العلاقات القائمة فيه بالنسبة للمنفِيّ، ويخيم عليه برود الأسى، وضحالة المشاركة. ولطالما وقع تعارض، بل انفصام، بين المنفِيّ والمكان الذي رُحّل/ارتحل إليه، وندر أن تكلّلتْ محاولات المنفيين بالنجاح في إعادة تشكيل ذواتهم حسب مقتضيات المنفَى وشروطه. ومن الحق أن يوصف ذلك بأنه "شقاء أخلاقي" دائم، فالمنفِيُّ هو منْ اقتُلع من المكان الذي ولد فيه، لسبب ما، وأخفق في مدّ جسور الاندماج مع المكان الذي أصبح فيه، فحياته متوتّرة، ومصيره ملتبس، وهو يتآكل باستمرار، ولا يلبث أن ينطفئ. فالمنفِيّ ينطوي على ذات ممزقة، لا سبيل إلى إعادة تشكيلها في كينونة منسجمة مع نفسها أو مع العالم، ومن المتوقّع أن يقدّم أدب المنفى تمثيلا سرديا عميقا لهذه الحالات المتضاربة من الرؤى، والمصائر، والهويات، والأقنعة، والتجارب التي يخوضها المنفِيّ، وبخاصة حينما يلجأ إلى الكتابة السردية التي تتعرّض لارتحالاته بين الأمكنة، والأزمنة، والثقافات، واللغات، والتقاليد، والمجتمعات، والبحث عن موقع له بينها، وكشف موقفه منها، ثم الكيفية التي يعيد فيها بناء مسار حياته ضمن رؤيته بوصفه منفيا يقف على حافة كل الحالات، ولا ينخرط فيها.  

   حاول "تودوروﭪ" في سياق بحثه عن الصلة بين "الأنا" و "الآخر" أن يحدد ملامح شخصية المنفِيّ، بالصورة الآتية "تشبه هذه الشخصية(=المنفِيّ)في بعض جوانبها المُهاجر، وفي بعضها الآخر المُغرَّب. يقيم المنفِيُّ، مثل الأول، في بلد ليس بلده، لكنه مثل الثاني، يتجنّب التمثّل، غير أنه وخلافا للمُغرَّب، لا يبحث عن تجديد تجربته وزيادة حدّة الغربة، وخلافا للخبير، لا يهتم خصوصا بالشعب الذي يعيش بين أفراده". وبعد هذا التحديد الذي تقصّد فيه أن يبيّن أوضاعا متزحزحة للشخصيات التي من خلالها يمكن أن تنبثق شخصية المنفيّ، مضى قائلا بأن المنفِيَّ هو الشخص "الذي يفسّر حياته في الغربة على أنها تجربة اللا-انتماء لوسطه، والتي يحبّها لهذا السبب نفسه. المنفِيُّ يهتم بحياته الخاصة، بل وبشعبه الخاص، ولكنه أدرك أن الإقامة في الخارج، هناك حيث لا "ننتمي" أفضل لتشجيع هذا الاهتمام. إنه غريب، ليس مؤقتا بل نهائيا. يدفع هذا الشعور نفسه، وإن يكن على نحو أقل تطورا، بالبعض إلى الإقامة في المدن الكبيرة حيث يحول الإغفال دون أي اندماج كامل في الجماعة". ويضيف "يكمن الخطر في وضع المنفِيّ..في أنه يتخلّى دفعة واحدة عن العلاقات القوية التي تربطه بهؤلاء الآخرين الذي يعيش بينهم". ويختم كل ذلك بقوله "قد يشكّل المنفَى تجربة سعيدة، لكنه بالتأكيد ليس اكتشافا للآخرين"(2).

     وشغل "إدوارد سعيد" بالموضوع فتطرّق إلى بواعث النفي، وآثاره "النفي لا يقتصر معناه على قضاء سنوات يضرب فيها المرء في الشعاب هائما على وجهه، بعيدا عن أسرته وعن الديار التي ألفها، بل يعني إلى حدٍّ ما أن يصبح منبوذا إلى الأبد، محروما على الدوام من الإحساس بأنه في وطنه، فهو يعيش في بيئة غريبة، لا يعزّيه شيء عن فقدان الماضي، ولا يقل ما يشعر به من مرارة إزاء الحاضر والمستقبل". ثم يوضّح "يشيع افتراض غريب وعار عن الصحة تماما، بأن المنفيَّ قد انقطعت صلته كلية، بموطنه الأصلي، فهو معزول عنه، منفصل منبت الروابط إلى الأبد به. ألا ليتَ أن هذا الانفصال "الجراحي" الكامل كان صحيحا، إذن لاستطعتَ عندها على الأقل أن تجد السلوى في التيقن من أن ما خلّفته وراء ظهرك لم يعد يشغل بالك، وأنه من المحال عليك أن تستعيده قط. ولكن الواقع يقول بغير ذلك، إذ لا تقتصر الصعوبة التي يواجهها المنفيُّ على كونه قد أُرغم على العيش خارج وطنه، بل إنها تعني- نظرا لما أصبح العالم عليه الآن- أن يعيش مع كل ما يُذكّره بأنه منفيٌّ، إلى جانب الإحساس بأن الوطن ليس بالغ البعد عنه، كما أن المسيرة "الطبيعية" أو المعتادة للحياة اليومية المعاصرة تعني أن يظل على صلة دائمة، موعودة ولا تتحقّق أبدا، بموطنه. وهكذا فإن المنفيَّ يقع في منطقة وسطى، فلا هو يُمثل تواؤما كاملا مع المكان الجديد، ولا هو تحررّ تماما من القديم، فهو محاط بأنصاف مُشاركة، وأنصاف انفصال، ويُمثّل على مستوى معين ذلك الحنين إلى الوطن وما يرتبط به من مشاعر، وعلى مستوى آخر قدرة المنفيّ الفائقة على محاكاة من يعيش معهم الآن، أو إحساسه الدفين بأنه منبوذ، ومن ثم يصبح واجبه الرئيسي إحكام مهارات البقاء والتعايش هنا، مع الحرص الدائم على تجنب خطر الإحساس بأنه حقق درجة أكبر مما ينبغي من "الراحة" و "الأمان"(3).

   أفرزت هذه الحال المزعزعة للمنفيين مدونة ضخمة من الكتابة الشعرية والسردية تعرف بـ"أدب المنفَى". وهو سجل متنوع أسهم فيه عدد كبير من الكتّاب المنفيين الذي استلهموا تجاربهم، وجعلوا منها خلفيات لعوالم افتراضية أفضوا بحنينهم إليها، ورغبوا في أن تكون المكافئ لإحساسهم بالفقدان والغياب. وقد عرفت الرواية العراقية هذه الظاهرة خلال العقدين الأخيرين، وما لبثت أن أصبحت موضوعا اجتذب إليه الكتّاب الذين وجدوا فيها معادلا  سرديا لحالة المجتمع العراقي، فطرحوا مشكلات الهوية، والهجرة، والاستبداد، والاحتلال.

2. حارس التبغ: هويات أم أقنعة!

    تصلح رواية "حارس التبغ" لـ" علي بدر" أن تكون مثالا نبدأ به الحديث عن كيفية طرح موضوع الهويات السردية المتحولة لشخصية المنفي حيث تُخرّب ركائز المطابقة مع الذات كما هي، فتتجدد الشخصية في كل زمان ومكان تكون فيهما. يصبح الوطن، في وقت واحد، مكانا للجذب بوصفه مسقطا للرأس، والطرد بوصفه مكانا للحياة. لا تتوفر للشخصية قوة نفسية على هجرته، ولا على نسيانه، ولا يمكن العيش فيه إلا بالتنكّر، والتخفّي. لم تتمكن الشخصية الرئيسة في الرواية، وهي يهودية، أن تعيش خارج العراق، لا في إسرائيل، ولا في إيران، وتعذّر عليها العيش في العراق إلا بعد أن انتحلت اسما ودينا ومذهبا لا صلة لها باسمها وعقيدتها. هذا ضرب جديد من المنفى الداخلي الذي يتخطّى الدلالة الجغرافية لمفهوم المنفى؛ فالعلاقة المركّبة بين إحساس الشخصية بالانتماء للوطن، ونبذ الوطن لها، وضعتها في منطقة متوترة لا تستطيع فيها أن تكون هي بصورة معلنة، ولا تتمكن أن تكون غيرها بإرادتها، فتبتكر فكرة الأقنعة المتعددة.

    لا تعتمد رواية "حارس التبغ" على عنصر الحكاية المتخيلة، إنما تلجأ إلى تقنية البحث، والتقصّي، وهي تقنية حديثة في السرد الروائي بدأت تحلّ بالتدريج محلّ المبدأ القديم القائل بضرورة إنشاء حكاية مغلقة، ولهذا فلا يكتفي الراوي بموضوعه إنما يردفه بشروح نظرية وفكرية توضح خلفيات كثير من الوقائع والأحداث، وتضع لها تفسيرات مختلفة، ويستأثر موضوع الهوية باهتمام الراوي- المؤلف، فلا يلبث أن يعرض وجهة نظره حيثما وجد فرصة لذلك.

    تنشر الصحافة العراقية في الخامس من شباط/ فبراير عام 2006 خبرا قصيرا حول العثور على جثة عازف الكمان العراقي "كمال مدحت" مرمية على شاطئ دجلة الشرقي وسط بغداد. تلك كانت حقبة الحرب الطائفية التي لامس العراق ضفافها. نشر الخبر مجردا عن أي تأويل مقصود، لكن سرّا كبيرا عُرف حينما كشفت إحدى الصحف الأميركية بالتفصيل خلفية مثيرة للخبر، فكمال مدحت كان في الحقيقة الموسيقار اليهودي "يوسف سامي صالح" من عائلة" قوجمان" الموسوية، وقد هاجر إلى إسرائيل في عام 1950 بعد أن أسقطت عنه الجنسية العراقية، جرّاء النزاع السياسي المتصل بنشوء إسرائيل في فلسطين، وهو زوج السيدة "فريدة روبين" وله ولد منها اسمه "مئير".

    لم يطق يوسف سامي العيش في تل أبيب، لأنه كان متعلقا بالعراق موطنه، فهرب إلى إيران عن طريق موسكو في عام 1953 وانتحل شخصية شيعية، وتسمّى بـ"حيدر سلمان" ثم تزوج في طهران من "طاهرة" ابنة التاجر إسماعيل الطباطبائي، وأنجب منها ولدا سماه" حسين". وبهذه التسمية التي أخفت أصوله اليهودية عاد متنكّرا إلى بغداد مع عائلته، ومكث فيها أكثر من عشرين عاما، حتى تمّ تهجيره من العراق في عام 1980 عشية الحرب العراقية-الإيرانية باعتباره من التابعية الإيرانية.

   بقي حيدر سليمان في طهران لاجئا مدة سنة، فهرب إلى دمشق بجواز سفر مزور باسم "كمال مدحت" وتقمّص شخصية عراقية سنيّة في بلاد الشام، وتزوج من سيدة عراقية ثرية اسمها نادية العمري يعود أصلها إلى مدينة الموصل، وأنجب منها ابنه "عمر". وبهذه الشخصية الثالثة عاد إلى العراق، وبقي فيه نحو عقدين من الزمان إلى أن قتل في عام 2006 في أحداث العنف الطائفي. وخلال تلك الفترة الطويلة قرّبته السلطة الحاكمة في بغداد، فتمتع بالحماية، وغرق في الملذات الشخصية، وأصبح أحد أهم الموسيقيين في العراق، وفي الشرق الأوسط. هذا هو الإطار السردي لرواية "حارس التبغ".

     طلبت الصحيفة الأميركية من الراوي أن يتقصّى حقيقة هذا الموسيقار المتنكّر بأقنعة كثيرة. وأن يكتب عنه تقريرا بألف كلمة ينشر باسم محررها" جون بار" لا باسمه. ثم كلفته "وكالة التعاون الصحفي" بوضع كتاب كامل عنه ينشر باسمه. وتكفّلت بتسهيل مهمته، وتغطية تكاليف رحلته إلى بغداد، وطهران، ودمشق، حيث أمضى الموسيقار معظم حياته متنقلا بين هذه العواصم، فأول ما شرع بذلك أن غادر الراوي "عمّان" حيث يقيم، وتوجه إلى "المنطقة الخضراء" في بغداد حيث وفرت له سلطات الاحتلال الأميركي إمكانية البحث في سيرة هذا الرجل الغامض. حصل من " فريدة روبين" على ملف برسائله التي حرص على إرسالها إلى زوجته الأولى في إسرائيل أينما كان. وشرع الراوي في تعقّب حياة الموسيقار وارتحالاته، وتحولاته، ومجمل أحداث رواية" حارس التبغ" تصف كيفية كتابة سيرة هذا الموسيقار، وحمله لأكثر من اسم، ولأكثر من هوية دينية وطائفية.

   طرحت قضية الهوية على خلفيتين متداخلتين، الأولى خاصة بالراوي، والثانية خاصة بالشخصية؛ فأول ما يلفت الانتباه درجة التماثل بين الراوي والشخصية. إذ يطابق "علي بدر"  بين الراوي والموسيقار. الراوي حامل لرؤية المؤلف وخبراته، ويقوم بدور كاتب مأجور(BLACK WRITER) يعمل لصالح الصحافة الأميركية إبان احتلال العراق، وقد جرى شرح المقصود بـ"الكاتب المأجور" بأنه "كاتب يذهب إلى المناطق الخطرة لكتابة تقرير صحفي عن موضوعة ساخنة لكن التقرير ينشر باسم أحد الصحفيين الكبار في الصحيفة، أما الصحفي المحلّي فلا يتقاضى سوى ثمن أتعابه"(4). يقايض الكاتب المأجور بحياته وخبرته المال. هذا وجه أول من المطابقة، أما الثاني فإنه يطابق بين شخصيات ذلك الموسيقار المتعددة وشخصيات ديوان" دكان التبغ" للشاعر البرتغالي "فرناندو بيسوا". هذه المطابقة بركنيها مهمة جدا، كونها تتدخل في توجيه مسار الأحداث إلى نهاية الرواية ومن خلالها يُطرح مفهوم الهوية.

    يأتي التعليق الأول بخصوص "الكاتب المأجور" واختلافه عن شخصيات بيسوا" عدنا مرة أخرى إلى لعبة الأسماء المستعارة والهويات الملتبسة، فالشخصية التي تغيّر أسماءها هي شخصية حارس التبغ كما هي في قصيدة بيسوا، أما "البلاك رايتر" فهو الذي يرهن وجوده إلى وجود آخر. إذن هنالك اختلاف نوعي بين البلاك رايتر وحارس التبغ، فحارس التبغ كما هو في قصيدة بيسوا يحتفظ الشخص الواحد بثلاث شخصيات، أو أكثر، بينما البلاك رايتر يعير وجوده إلى اسم آخر، وفي الغالب اسم غربي، ومن هنا من وجهة نظري يبرز ما يطلق عليه بالنصية الاستعمارية، وهي نوع من أنواع الامتصاص، أو نوع من أنواع الشفط والتي تقوم على محو وجود الكائن كليا وتركه خاليا"(5). ويعود الراوي إلى الحكم على شخصية الكاتب المأجور" هي الشخصية المسحوقة على الدوام، وهي الغائبة الوجود كليا وظاهرة في وجود آخر لا يمتّ لها بصلة"(6).

     يبحث الكاتب المأجور عن دور في العالم التخيلي للنص، ويستأثر بنحو ثلث المتن السردي للرواية، فيزاحم الشخصية التي تؤلف موضوع الرواية، ويظل يبعدها عن الحضور إلى أن يستنفد طاقة الاستعراض لديه قبل أن يبدأ بحثه في سيرتها. تسقط الشخصية بين شركي الرغبة الاستعراضية التي لا تشبع عند الراوي، وشخصيات كتاب بيسوا التي تتوارى خلف أسماء متعددة. فينشغل الراوي بتجاربه الشخصية، ويستمتع بذلك عارضا خبراته ومعارفه، وأسفاره، وتجاربه، وحينما يتحتم عليه البحث في سيرة الموسيقار، يشغل بمدى تناظر الشخصيات الثلاثة التي ظهر فيها مع شخصيات ديوان" دكان التبغ".

    عرضت الرواية أدلة على وجود التناظر ثلاثي الأبعاد بين متنها السردي والمتن الشعري لكتاب "دكان التبغ". فمن ناحية أولى ظهرت شخصية اليهودي يوسف سامي، المرتابة، والمستنيرة، وهي تناظر شخصية البرتو كايرو في ديوان بيسوا، ثم يتلاشى حضورها حينما تبرز شخصية الشيعي حيدر سليمان، وهي كثيرة الاحتفاء بالعلامات، وأشكال التعبير، ومتعلقة بالأنظمة الرمزية الموروثة، فتكون مناظرة لشخصية ريكاردو ريس، وأخيرا تنبثق شخصية السنّي كمال مدحت الحسية، المغرقة بمتعها ورغباتها، لتناظر الشخصية الثالثة، وهي الفارو دو كامبوس. شخصيات تتحول في هوياتها، وأدوارها، وبتقدّم الزمن تلتهم الشخصية اللاحقة تلك التي سبقتها، ويأتي القتل ليلتهم الأخيرة.

    كُتبتْ الرواية بقصدية معلنة للتعبير عن هذه الفكرة، وجرى تكرار كثير لذلك في تضاعيفها؛ فحينما قبل الراوي عرض إحدى الوكالات الأميركية البحث في حياة الموسيقار العراقي المقتول وإصدار كتاب عنه، عثر في بيته على نسخة انجليزية لديوان" بيسوا" وعليه كثير من الحواشي والتعليقات والشروح، فهاله ما وجد، إذ أدرك فورا" أن في هذا الكتاب الكثير من أسرار حياته، حينها تحولتُ إلى دراسته وفهمه، لأن فيه إلى حد كبير بعض المفاتيح الأساسية لحلّ أسرار حياته وألغازه"(7).

   حفّز الديوان المذكور الراوي على تقسيم سيرة الموسيقار إلى ثلاثة أقسام: حارس القطيع، المحروس، وحارس التبغ. ثم بدأ يشرح التماثل" يقدّم بيسوا في ديون دكان التبغ ثلاث شخصيات مختلفة، وهم(=وهي)عبارة عن ثلاث حالات تقمّص، وكل شخصية من هذه الشخصيات المخترعة هي وجه من وجوه بيسوا، مقدّما لكل واحدة منها اسما خاصا بها وعمرا محددا، وحياة مختلفة، وأفكارا وقناعات، وملامح مختلفة عن الشخصية الأخرى، وكل مرة يطوّر شكلا للهوية أعمق وأكثر اتساعا، ولكننا نصل فيما بعد إلى التباس حقيقي للهوية، الشخصية الأولى لحارس القطيع واسمه البرتو كايرو، والثانية للمحروس ريكاردو ريس، والثالثة للتبغجي وهو الفاردو دي كامبوس، فنجد أنفسنا أمام لعبة ثلاثية الأطراف، أو رسم تكعيبي ثلاثي لوجه واحد"(8).    

     هذا عرض نقدي موفق لحالات تقمص بيسوا لشخصياته يقدمه الراوي، وهو يبحث تناسل الشخصيات. فما علاقة ذلك بعازف الكمان العراقي؟ يمضي الراوي كاشفا المماثلة "وهكذا فعل كمال مدحت، فكانت له ثلاث شخصيات، وكل شخصية لها اسم، وعمر، وملامح، وقناعات، ومذهب مختلف عن الشخصيات الأخرى، فسامي صالح هو الموسيقار اليهودي، الليبرالي والمتنوّر...وحين دخل طهران اتخذ لنفسه شخصية حيدر سلمان، وهو موسيقار ولد في عائلة شيعية متوسطة.. وحين دخل من دمشق إلى بغداد دخل بشخصيته الثالثة وهي شخصية كمال مدحت، ولد في عائلة من التجار تقطن في الموصل..وهي من كبار العائلات السنية، وقد أرتبط بعلاقة خاصة مع السلطة السياسية في بغداد في الثمانينيات، وأصبح من المقربين من الرئيس صدام حسين"(9).

    لا يكشف هذا التناظر إلا أقل مظاهر التماثل بين بيسوا الشاعر البرتغالي وكمال عازف الكمان العراقي، فقد انزلق السرد إلى منطقة لا علاقة لها بين الاثنين، إذا وافقنا الراوي بأن الشخصيات الثلاث في "دكان التبغ" هي فعلا "ثلاث حالات تقمص، وكل شخصية من هذه الشخصيات المخترعة هي وجه من وجوه بيسوا" فذلك يقودنا إلى مماثلة بين فرناندو بيسوا وعلي بدر، وليس بين بيسوا وعازف الكمان. ابتكر بيسوا مواقف متعددة لأنداده يعرض من خلالهم رؤى متباينة للعالم الذي" يبنى من جديد في أعماقي، بلا مثل أعلى، وبلا أمل" وعلى غرار ذلك قام المؤلف بإعادة تركيب شخصية الموسيقار بما يطابق رغبته للتعبير عن ثلاث هويات سردية.

    والحال هذه، فقد انفصمت الصلة بين بيسوا والموسيقار، وحلّت محلها مماثلة بين مؤلفين يريدان التعبير عن حالات تقمص، هما الشاعر والروائي المختبئ في أهاب الكاتب المأجور. وذلك ربما هو الذي يعطي للتناظر قيمة في هذا السياق، وليس التناظر الزائف الذي تكررت الإشارة إليه كثيرا في تضاعيف الرواية بين بيسوا والموسيقار؛ ذلك أن بيسوا وبدر يقعان ضمن رتبة سردية واحدة، هي رتبة التأليف، فيما شخصياتهما تقع في رتبة سردية أخرى هي رتبة التخييل، ويحظر في الدراسات السردية الخلط بين هاتين الرتبتين.

    على أن هذا إنما هو منزلق خاطئ أول، ولكن الخطأ الأكبر هو عدم الانتباه إلى فارق أشد خطورة، فقد جرى تضخيم الوجوه المقترحة للشخصيات في ديوان شعري، لتبرير نزاع الهويات اليهودية، والشيعية، والسنية، وهنا تعرض قضية أخرى لا صلة لها بشخصيات بيسوا، إذ جرى الحديث عن هويات ثابتة إدراج الموسيقار في إطارها. تحدث بيسوا عن نزعات تأملية وتعبيرية كانت تحيل على أنداده أكثر من تقمصاته، فهل الهويات التي أجبر الموسيقار العراقي على الانخراط فيها لها تلك السمات؟.

    لابد من الإفصاح بأن القول بوجود هويات راسخة سنية وشيعية أمر يحتاج إلى إثبات غير متوفر، لا خارج النص ولا في داخله، فذلك من نتاج المنازعة على الأدوار السياسية، وليس بسبب الرؤية إلى الذات والعالم، وهو لم يرتق إلى مستوى الهوية المغلقة الصلبة الأركان، فجاء ذكر ذلك بأقرب ما يكون إلى اختزال سريع لمفاهيم رائجة حول التعارض الكامل بين تلك الرؤى التي فيها درجة من الخصوصية غير أنها دون مستوى الهوية، وعلى خلفية هذا الخطأ الثقافي الذي كلما تقدمنا معه ظهرت لنا جسامته، يركب السرد حكما خطيرا، فالهوية اليهودية ليبرالية تأملية وتنويرية، والهوية الشيعية تقويّة متعلقة بالرموز والطقوس، والحنين، والمثالية، والهوية السنية دنيوية، مغرقة في الحسية، ومشغولة بممارسة السلطة.

    تثير الرواية، إذن، على مستوى التأويل الثقافي، أسئلة كثيرة. يظهر أولا اليهودي الكائن المفكّر، ولكنه يبقى متعلقا بيهوديته إلى النهاية عبر زوجته" فريدة روبين" التي أصبحت أستاذة في قسم اللغة العربية في جامعة القدس، وهي التي تعيد تركيب شخصيته من خلال الملف الكبير الذي ترسله إلى الوكالة المموّلة لإصدار سيرته، وفيه رسائله، ويومياته، ووثائقه خلال المراحل الثلاث من حياته، ولها دور كبير في إضاءة كافة جوانب حياته، فملاحظاتها سدت الثغرات الغامضة في حياته. وذلك ما تقوله في رسالتها للوكالة الراعية مشروع الكتاب.   وعلى تلك الوثائق التي جاءت من أسرته الإسرائيلية اعتمد الراوي في تأليف كتابه. ويخلفه الشيعي الممتثل للطقوس، والمؤمن بأشكال الموروث الرمزي حول الهوية الشيعية، فاسمه حيدر وابن حسين، وتاريخه مسار من الاستبعاد والتظلّم، والتزام مبدأ التقيّة. ولم تظهر عليه مباهج الحياة خلال هذه الفترة من حياته، وانتهت بترحيله من بلاده، فهو ممتثل لقدر غامض بأنه ضحية. وعلى أنقاض هاتين الشخصيتين يظهر كمال السنى، الدنيوي، والمنقاد لنوازع الحياة ومتعها، وقد خلّف ابنا سمّاه" عمر". فعزف عن استحضار أي عنصر من مكوناته السابقة، إذ لا يمكن لشخص قرر تبنّي مبدأ المتعة إلا إذا كان ذلك على أنقاض شخصيات مشرّدة أو مظلومة. وهي الهوية التي تلتهم ما جاورها وسبقها من هويات. هذا هو الغطاء السردي الذي تم خلعه على شخصية الموسيقار.

     افترضت الرواية هويات ناجزة ألبستها لشخصية لم يقع أي تغيير في هويتها الحقيقية، فقد ظلت حاملة للرؤية ذاتها، والأيدلوجيا نفسها، والنظرة إلى الحياة عينها. فلماذا تريد أن تبرهن على هويات مفترضة بإسقاطها على شخصية لم تتعرض فعلا لتغيير في هويتها؟. ثمة احتمالان، إما أن يكون قد جرى تزييف في مفهوم الهويات وأسقطت بتعسّف على الشخصية، أو أن تكون طرحت فكرة غير قابلة للإثبات وهي، هوية الضحية بإزاء هوية القاتل. ولطالما قيل بأن الهوية اليهودية ضحية الهوية الإسلامية، والهوية الشيعية ضحية الهوية السنية، وعلى خلفية هذه الأفكار جرى إسقاط الأقنعة على الشخصية لتنتهي بأن تكون حاملة لهوية قاتلة.

     كيف إذن تنتهي هذه السلسلة الطويلة من القتلة والضحايا؟ لا سبيل إلا بقتل الهوية الأخيرة، أي إباحة مبدأ القتل. ولهذا جاء حسين ومئير إلى أبيهما في العراق بوضع تحكمه مصالحة بين اليهودي والشيعي في ارتباطهما بأصل أبوي مشترك، فيما عاد عمر بنقمة من يحمل ثأرا. جرى إغفال كون" مئير" ضابطا رفيع الرتبة في المارينز، وإنه جاء ضمن حملة احتلال، وأغفل سياق حضور" حسين"، وجرى التركيز على نقمة" عمر" واختزل موقفه من كل ما جرى لبلاده إلى غضبه من انحلال سلطة السنة في العراق، وطمس موضوع احتلال بلاده. لم تقع إشارة إلى أن العراق هو بلد" مائير" أو "حسين" كونهما ولدي الموسيقار، وبما أن" عمر" عاد ناقما، فظهر وكأنه هو الابن الحقيقي. ولم يمض النص إلى منطقة المفارقة السردية الكبرى لو التقى الأبناء الثلاثة معا وجها لوجه بأبيهم، وماذا سيكون عليه الموقف بين الأخوة الأعداء؟ هل سيكون ولاؤهم لأبيهم أم لوطنهم؟. وهل من المناسب ان يكتفوا باسمائهم المجردة فقط أم أنهم سيتحصنون بهوياتهم كون أحدهم جاء محتلا، والآخر مقاوما، والثالث يكاد يكون بلا موقف؟ وهل سيحلّ بينهم سلام الأخوة أم احترابها؟. وأين كل ذلك من وطنهم ومنافيهم، ومن عقائدهم، ومذاهبهم، وأدوارهم، وهوياتهم؟.

    وقعت الرواية أسيرة التصورات الجاهزة لنزاع الهويات التي هي أعقد بكثير مما جرى عرضه. وبهذا الغطاء الخارجي جرى طمس الأزمات الكبرى التي شهدها العراق طوال حقبتي الاستبداد والاحتلال، وتحول الأمر إلى نزاع هويات بين الجماعات الفاعلة فيه، وهذا الاستبدال له نهاية على غاية من الخطورة، فهو يشيح بوجهه عن الحقائق الكبرى، بما فيها الاحتلال، وبها يستبدل صراعا بين هويات لم يقع تركيزها في بنية النص. وحينما تعوز ذلك الاستبدال البراهين السردية الداعمة، يتم تخطّي المكوّن اليهودي، وبه يستبدل المكون الكردي بطريقة تخرّب فيها فرضية الهويات الثلاثة المذكورة "كان الانقسام الاجتماعي واضحا، لقد وجد كمال مدحت الجميع وحتى أوساط الفنانين بدأت تعكس هذا الانقسام الثنائي، وكان الجميع يهوون الانقسام ولكنه يمدّه بعون ساكن. كمال الذي كان يعتقد أن لهذه البلاد قصة واحدة ورواية واحدة وبالتالي لها هوية واحدة، فجأة وقف على ثلاث روايات متعارضة ومتناقضة، كل واحدة من الجهات تكتب تاريخها وتروي وجودها بمعزل عن الجهة الأخرى، فجأة وجد للشيعة رواية، وللسنة رواية، وللأكراد رواية، وهذه الروايات لا تتمم بعضها ولكنها تناقض بعضها وتقف بمواجهة بعضها البعض أيضا"(10).

    اخفيت الهوية اليهودية، وهي الأصلية الملازمة للشخصية، إذ لا مكان لها في السجل الجديد الذي فتحه الاحتلال. ولم يشر للهوية الكردية إلا في تلك الفقرة، ولو كانت الشخصية من أصول كردية لاتسق الأمر، ولكن المناقلة بين الهوية اليهودية والكردية تمت في غياب أي مبدأ سردي ناظم يعطي شرعية فنية لتلك المناقلة. وتثار هذه القضية بأجمعها، أقصد الهويات المتعارضة، لأن الشخصية صممت لتمثيل ذلك كما جرى التأكيد على ذلك أكثر من مرة. وكل هذا إسقاط استباقي لم يبرهن عليه نمو الشخصية في العالم المتخيل للرواية، وليس ثمة مستندات سردية تحيل عليه، إنما جرى وضع الشخصية في إطار جاهز لتبرهن عليه، وذلك آخر ما يسمح به في عملية السرد الذي يحرص على إنتاج "الهوية" إذ تشق الشخصية طريقها في خضم صعاب وتجارب، لا أن تكون مكتملة سلفا ثم ترمى في إطار مرتّب لمعنى للهوية.

    متابعة هذا التحليل إلى نهايته سيخرب الإدعاءات السردية الشارحة حول معنى الهوية في كل الرواية، ولكننا نقف على ظاهرتين، الأولى حول الهوية الأخيرة، الهوية السنية، التي التهمت الهويتين الأخريين اليهودية والشيعية، حيث قتل الموسيقار وهو عليها، فهل هي هوية قاتلة؟ والثانية، وهي الأشد ظهورا، وتخرب كافة الافتراضات، وهي أن شخصية الموسيقار بكل هوياته التي ذكرت، كانت ثابتة في رؤيتها لنفسها وعالمها وعلاقاتها الحقيقية، ولم تعرف أي تحول ذي أهمية ينعطف بها إلى مستوى الهوية المتميزة التي تختلف عن هوياتها الأخرى، ولهذا تتبد أساطير الهويات في النص، وتحل محلها قضية الأقنعة التي ارتداها الموسيقار ليجنب نفسه الأذى، وليبق في موطنه. والقناع غير الهوية.

     تريد الرواية أن تجد لها صلة بموضوع الهويات السردية، فتخلص إلى التوضيح النقدي الآتي حول شخصيات الموسيقار "هكذا بيّنتْ حياته بشكل لا لبس فيه زيف ما كانوا يطلقون عليه الهوية الجوهرية، ذلك لأن حياته تبين إمكانية التحول من هوية إلى هوية عبر مجموعة من اللعبات السردية، فتتحول الهوية إلى قصة يمكن الحياة فيها وتقمصها، وهنا يطلق هذا الفنان ضحكة ساخرة من صراع الهويات القاتلة عبر لعبة من الأسماء المستعارة والشخصيات الملتبسة والأقنعة، وفي غمرة الحرب الطائفية في بغداد قبل مقتله، زاره أبناءه الثلاثة، فكشفوا عن هذا الإسقاط الهوياتي بصورة واضحة، فمئير يهودي من أصل عراقي هاجر من إسرائيل إلى أمريكا، والتحق بالمارينز وجاء ضابطا في الجيش الأمريكي إلى بغداد، وهو ثمرة شخصيته الأولى، وحسين بعد تهجيره إلى طهران ارتبط بهوية شيعية، وانتظم في الحركة السياسية الشيعية وهو ثمرة شخصية الأب الثانية، وعمر كان سنيا يحاول أن يدعم هويته من تراجيديا إزاحة السنة عن الحكم في العراق بعد العام 2003 وهو نتاج شخصيته الثالثة، وكل واحد منهم كان يدافع عن قصة مصنوعة ومفبركة ومزودة بالكثير من العناصر السردية والوهمية، والتي يعيش كل واحد منهم فيها بوصفها حقيقة"(11).

     ثم يستيقظ المؤلف القابع وراء الراوي، فيجمل أطراف القضية بكاملها" تبين حياة كمال مدحت أن الهوية ترتبط على الدوام بواقعة سردية، فهي حكاية تلفق أو تفبرك أو تسرد في لحظة هي مطلقة الاعتباطية، في لحظة تاريخية مموضعة يتحول الآخرون فيها إلى آخرين، وأغراب، وأجناب، ومنبوذين أيضا. وهكذا تبين حكاية هذا الفنان أن الهوية هي حركة من حركات التموضع وسياسته، فما إن تجد لها موضعا في حركة تاريخية معينة، حتى تغيره في لحظة تاريخية أخرى، فكل هذه المجاميع التخييلية تبدأ بسرد مفبرك ومخترع لتنفي الاختلاط وتداخل الهويات، كما أنها تكشف عن هذه الأطر المتوهمة والمصنوعة والمفبركة في لحظة تاريخية معينة، فهي مفتريات روائية fiction، وهي سرد Narration فكل جماعة وهي تفقد جذورها في الزمان فإنها تعمد إلى استعادة أفقها المفقود، ولا يمكن لها استعادته إلا من خلال السرد والخيال"(12).

     ويضيف شارحا "عاش يوسف في غمرة صراع الهويات في الشرق الأوسط، وشعر أن حاضره يهيمن عليه شبح الحرب أو الاقتتال الأهلي، شعر أن الهويات منذرة بنهاية كل شيء. شعر بالاختناق وقتها أو بالموت، كانت البلاد سفينة تغرق شيئا فشيئا، ومخاوفه تزداد أضعافا مضاعفة، كان العالم المحيط يتقهقر وينهار، الهزائم المتتالية في بلد ممزق تفترسه الإيديولوجيات الكاسحة، فوضى مريعة، غياب كلي للعقل وللقيم، ووجوده الشخصي مهدد كل لحظة. بدلا من أن يشعر يوسف أنه المركز الثابت للأشياء، أخذ يشعر بالخوف، وشعر بأن هنالك قوة هائلة قذفته إلى العتمة، أخذ يشعر أن الزمن يمضي، وهنالك نوع من التقهقر والتراجع إلى وراء، شعور بالاندحار والسقوط. أصبحت الأعياد كئيبة، والأفراح أخذت تتلاشى، وهنالك شعور بالخوف الخفي، لم يعد المجتمع الذي يعيش فيه يتمتع بحضور شامل وجميل بل أصبح متاهة معقدة ومخيفة. كل شيء ضيق قليل الاتساع، يجتاز سوراٍ فيرتطم رأسه بسور آخر، عالم جديد ولكنه مخيف يشم منه رائحة الدم. تسارع ولكنه نحو الهاوية"(13). 

3. الحفيدة الأميركية: المنفى والهوية المرتبكة.

   وتقدم رواية "الحفيدة الأميركية"لـ" إنعام كجه جي" تمثيلا سرديا شائقا لموضوع الهوية المرتبكة، وأحوال الأقليات العرقية والدينية التي يهتزّ انتماؤها حينما تعمّ الفوضى وسط الجماعات الكبرى الحاضنة لها، وكل ذلك على خلفية وضع العراق الذي زعزعته أحداث الاستبداد ثم الاحتلال، فتنهار أساطير الانتماء القديمة، وتُستحدث أساطير بديلة، وتتغير الأسماء، ويقع التلاعب بالمصائر، وتُقترح هويات ضيقة جدا، أو هويات كونية واسعة جدا. لا مكان لامرئ سوّي في هوية مغلقة، ولا في هوية متوهمة، ولا يمكن أن يكون بلا هوية. يحتاج المرء إلى هوية مفتوحة هي مزيج من هويات موروثة ومستحدثة، هوية قابلة للتحول بتحوّل الأحداث والأزمان تطوّر نفسها بنفسها.

    هذه هي الخلفية الثقافية العامة التي ترتكز عليها رواية "الحفيدة الأميركية". وتنفتح على المتغيرات التي شهدها العراق في تاريخه المعاصر. وبانتقاء شخصيات متّصلة بذلك التاريخ وتحوّلاته تطرح الرواية جملة من الرؤى والمواقف. لم يعد العراق أرض انسجام اجتماعي، وتماسك أخلاقي، إنما تناهبته الأيدلوجيات، والمصالح، والرهانات الكبرى. صار العراق بحاجة إلى إعادة تعريف نفسه. ذلك ما تقترحه الرواية بطريقة واضحة، وقاسية؛ فخلف نسيج الأحداث تقبع مواقف الشخصيات لتعبر عن رؤى جديدة مغايرة لرؤى الأجيال القديمة.

    زينة فتاة عراقية، أشورية، مسيحية، في حوالي الثلاثين من عمرها، أزيح جدها العقيد الركن المتقاعد يوسف الساعور عن منصبه في الجيش العراقي بُعيد ثورة عام 1958 وهو ينتسب إلى عائلة عريقة من الموصل. كان مسكونا الجدّ بالغيرة على وطنه. أما جدّتها رحمة فتّوحي فكردية من "بيخال" أقصى شمال العراق. ارتبط الجدّان بوطنهما، وماتا فيه. جاءت زينة إلى الحياة ثمرة زواج أمها بتول الكلدانية "التي خالفت ملّتها وتزوجت آشوريا" وأبيها صباح شمعون بهنام، المذيع وعاشق للغة العربية، الذي تعرّض للتنكيل لأنه أفصح سرّا لصديق له عن ملله من طول نشرة الأخبار في التلفزيون، فكان جزاؤه أن قُرض لسانه من الجانبين بكلابتين، وحطّمت أسنانه، وأطفئت أعقاب السجائر على جسده. لا ينبغي إبداء أي تذمّر في حقبة الاستبداد.

     هرب الأب من بغداد، مع زوجته الجامعية وطفليه زينة ويزن إلى شمال العراق، فتزوّدوا بجوازات سفر مزوّرة، ثم وصلوا الأردن، وانتظموا في طوابير الباحثين عن اللجوء الإنساني، وتمكّنوا من الوصول إلى أميركا، وبصعوبة بالغة عثروا على شقة خشبية عتيقة في حي سكنّي بائس قرب ديترويت، وانتظروا أعواما للحصول على الجنسية، وترديد قسم الولاء لأميركا، وبذلك أصبحوا مواطنين أميركيين بالوثائق. ولكن بوصول الأسرة إلى أرض الأحلام، راح يتفكك تماسكها الموروث: نُسي الجدّان في بغداد، وانفصل الزوجان، واجتاحت الأمراض جسد الزوجة التي أدمنت التدخين الرخيص. الابن يزن أدمن المخدرات، ثم أضاعت زينة أي ملمح للأمل، فانخرطت مع جماعات من الشباب المحبط تدور على الملاهي والمطاعم بلا هدف، وعثرت على عشيق أمريكي سكير، كان يناديها" زانيا".

    لم تصبح أميركا ملاذا تعيد به الأسرة جمع شملها، كما توقعت، إنما عملت على تمزيق النسيج العائلي الموروث. فقد أطلقت في أعماق أفرداها نوازع العبث والأنانية. كانت الأسرة مهددة بحياتها في العراق، لكنها حافظت على تماسكها، وما أن عثرت على ملاذ أمين حتى فقدت روابطها الحميمة، ولم يعد من الممكن القول بأنها أسرة واحدة. عزّز الاستبداد تماسكها، وفككت الحرية روابطها. كانت مهددة بحياتها وصارت مهددة بقيمها وعلاقاتها. إنها حكاية انتساب إلى أقلية عريقة في بلد متنوّع الأعراق، ونزوح رمزي إلى مكان آمن بسبب القهر الوطني، وضياع في هوية كونية. لم يكشف النص أي إحساس حقيقي بالانتماء لأميركا عند الشخصيات. كانت ملاذا فحسب، ومانحة لوثائق حماية.

    حجبت فوضى الحياة عن زينة التفكير ببلدها الأصلي، وما عاد يعني شيئا بالنسبة لها. لم يعد العراق سوى ذكرى متراجعة إلى الوراء. وبوقوع أحداث 11/9/2001 اصطنعت زينة لنفسها سببا، وتعمدت ابتكار هوية في لمح البصر. فكرت في كيفية ردّ الجميل لأميركا التي منحتها الجنسية. وببداية الحملة العسكرية استجابت لعروض الترجمة التي تقدمت بها وزارة الدفاع، والتحقت مترجمة بالجيش الأميركي. عادت زينة إلى العراق بهذه الصفة لتقوم بعمل جليل: تخليص بلاد الرافدين من طاغية. شرعت تستعدّ في ظل حملة تقول بتحرير البلاد من الاستبداد، واختلقت هدفا يوافق ذلك "إنني ذاهبة في مهمة وطنية. جندية أتقدم لمساعدة حكومتي وشعبي وجيشي، جيشنا الأميركي الذي سيعمل على إسقاط صدام وتحرير شعب ذاق المر"(14). عزّز الهدف بمبلغ186000 دولار، هو أجرها السنوي، وكان كما تقول، هو" ثمن لغتي النادرة، بل ثمن دمي". دمجت زينة بطريقة براغماتية بارعة بين شعور وطني زائف استثير فجأة، وأجر مالي مجز، وتغيير في مسار حياة عابثة.

    لم يكن هذا الغطاء السميك من البلادة الأخلاقية قادرا على طمس المشاعر المتوارية في منطقة نائية من أعماقها، فلم تتخلّص بصورة قطعية من ذاكرة كانت تجرّها أحيانا إلى الوراء، وتُحدث في اضطرابا، فمع بدء الغزو نشأت لديها مشاعر متضاربة "رغم حماستي للحرب أكتشف أنني أتألم ألما من نوع غريب يصعب تعريفه. هل أنا منافقة، أميركية بوجهين؟ أم عراقية في سبات مؤجّل مثل الجواسيس النائمين المزروعين في أرض العدو من سنوات؟ لماذا أشعر بالإشفاق على الضحايا وكأنني تأثرت بالأم تيريزا، شريكتي في اسم القديسة شفيعتي؟ كنت أنكمش وأنا أشاهد بغداد تقصف وترتفع فيها أعمدة الدخان بعد الغارات الأميركية. كأنني أرى نفسي وأنا أحرق شعري بولاعة سجائر أمي، أو أخز جلدي بمقصّ أظافري، أو أصفع خدّي الأيسر بكفي اليمنى"(15). دخل مؤثر جديد، فاهتزّ التوازن القديم، دفعت الحرب زينة إلى موقف غير محسوب. وقع صراع بين المشاعر والمصالح، وبين الماضي والحاضر. هذا مقوّم من مقوّمات الهوية المركبة.

   حينما أعلنت الحرب اكتشفت زينة أنها يمكن أن تكون مفيدة ومستفيدة، فهي تجيد الانجليزية والعربية. تريد أن تخدم وطنها الجديد بغزو الوطن القديم. ولم يغب عامل المال. رحلتها للمشاركة في احتلال مسقط رأسها رسمت لها معنى الهوية وفقدانها. كانت سعيدة في ملاذها الجديد لأنها لا تعرف معنى الانتماء، فاللامبالاة تغذّي صاحبها بالفرح لأنه ليس مشدودا إلى هدف، وغير مثقل بمعنى، وخارج مدار الذكريات. يعوم كفقاعة في وسط غامض، وبإعادة تعريف هويتها كأميركية-عراقية بدأ الشقاء. جاء تعريف الهوية على خلفية قضية الغزو والاحتلال. وإذا كان جيل الأجداد قبل ظلما وسكت عليه، وجيل الآباء هرب منه، فجيل الأحفاد عاد لينتقم.

    عادت زينة غازية تحمل المشروع الأميركي لإعادة تعريف العراق، وتحريره من طاغية. لم يكن ذلك واضحا عندها، فهي لا تعرف عن جدّها وجدّتها ألا نبذا من ذكريات الصبا. لكنها تعرف عن أمها وأبيها الكثير. بيد أنها لم تكن تعرف نفسها كما ينبغي. وطوال حياتها الأميركية كانت تبتذل أية معرفة، وتسخر منها. وبوصولها العراق بدأت تعيد بناء تجربتها الشخصية. حرص الأب على تعليم الأبناء اللغة الآشورية حفاظا على خصوصية الهوية التاريخية، فيما ظلّت الأم تتحدث بالعامية العراقية، أما الانجليزية فكانت لغة الحياة اليومية خارج البيت بالنسبة لزينة. يريد الأب الحفاظ على اللغة القومية، والأم على اللغة الوطنية، والبنت على اللغة الكونية. لكن الأميركيين في وزارة الدفاع كانوا ينتقون من يعرف العربية لتأسيس التواصل بينهم وبين العراقيين، في المعتقلات، وفي أثناء الاستجوابات، والتحقيقات، وخلال العمليات العسكرية. ولم ترد أية إشارة إلى أن زينة قامت بالترجمة لغرض يتصل بغير ذلك. إنه تضارب عميق يأخذ دلالته من السجال الناشب بين الهويات المتنازعة.

     تمثل زينة أيقونة الحيرة في الحالة العراقية الواقعة بين الاستبداد والاحتلال. لقد تركت جدتها وجدّها في بغداد، ورافقت والديها إلى أميركا. أصرّ الجدّان يوسف ورحمة على أن يبقيا عراقيين، وفصلا بصورة قاطعة بين الاستبداد والوطن. أما الأبوان صباح وبتول فتركا البلاد هاربين من أخطار حقيقية، وأصبحا أميركيين، لكنهما سقطا في منطقة الحنين إلى مسقط الرأس. خربّ المنفى علاقاتهما الزوجية، فترك الأب البيت، وعانت الأم صعاب الحياة. أما الأحفاد زينة ويزن، فعاشا عالما لا صلة بالذاكرة. أدمن يزن المخدرات وهو في مقتبل عمره، وأصبح اسمه" جازين" وانخرطت زينة، وقد أصبحت "زانيا" في عبث الشباب وعدم الانتماء. لم تحتف بالتاريخ. كان العراق بالنسبة لها "حاوية لعظام الأجداد"(16).

    أبت الجدّة مغادرة بلادها، فمكثت وحيدة في بيتها الكبير في بغداد، تستعيد صورة زوجها العقيد، وتتمسّح بأزيائه العسكرية بعد وفاته، وتصلّي أن يحمي القديسون بلادها. تقوم على خدمتها عجوز شيعية تدعى طاووس، عاصرت نصف قرن من حياة الأسرة المسيحية. وقبل قرابة ثلاثين عاما، حينما تعرّضت بتول لحالة حمّى، قامت طاووس بإرضاع زينة. أنجبت طاووس ستة أبناء، أصبحوا جميعا أخوة لزينة بالرضاعة. أكبرهم "مهيمن" عاشق للموسيقى، الذي سيق إلى الحرب مع إيران، وأخذ أسيرا، وخلال الأسر غذّي بالأيدلوجية الدينية المتشدّدة، وتشبّع بها، وحينما أطلق سراحه وعاد، فأول ما مقام به إحراق صندوق الأشرطة الموسيقية التي احتفظت به له أمه" ذهب شيوعيا بالوراثة، وعاد فقيها يجادل في أمور الجنة والجحيم"(17). وباحتلال العراق التحق بجيش المهدي. الأخت زينة مترجمة لدى الجيش الأمريكي المحتل، وأخوها مهيمن في جيش المهدي المقاوم. ثمة انتساب وثمة عداء. اتصال وانفصال.

    أول تغيير لحق بهوية العراقيين الجديدة في أميركا يتصل بالتسمية، تصبح "زينة" هناك " زانيا" ويتحول "يزن" إلى" جازين". حجزت الفتاة في تسمية أميركية، فيما كانت أيام طفولتها في بغداد ترتع وسط تسميات محببة كثيرة: زينة، زين، وزوينة، وزيونة، وزيّون، وزُنزُن. وعلى خلفية هذه التحولات الصرفية في الاسم وقع تحول جذري في الهوية، تنشطر الأسرة إلى جيل الأجداد المتمسّك بالهوية العراقية، وجيل الآباء الذي هرب منها لكنه يحنّ إليها بالشعر والغناء والذكريات، وجيل الأبناء الذي قطع الصلة عن كل ذلك، فانخرط في العبث، ولم يجد أمامه سوى الإحباط، وقد رمي على هامش الحياة الأميركية.

    جاءت الحرب فخلطت الأجيال بعضها ببعض، وأعادت تعريف هويتها. فانبثق جدل حول الوطن والمنفى، وحول الاستقرار والهجرة. ترى زينة بأن "الهجرة هي استقرار هذا العصر، والانتماء لا يكون بملازمة مسقط الرأس". أما مهيمن، الأخ بالرضاعة، فيرى أن "الهجرة مثل الأسر؛ كلاهما يتركك معلقا بين زمنين، فلا البقاء يريحك ولا العودة تواتيك(14). كل يدافع عن تجربة يعرفها، فتتوارى عنه تجارب الآخرين. لم يتأسس أي نوع من الاتصال العميق بين الشخصيات لعزوفها الكامل عن التعرّف إلى تجارب سواها. نبذت زينة-زانيا في بغداد من طرف جدّتها، ولم يتقبّل مهيمن وجودها في عالمه، فأمضت أيامها مجندة في المنطقة الخضراء. حاولت كسر الحلقة المغلقة لكنها فشلت، كانت تتصرف بطريقة مستعارة من هويتها الجديدة. ولكن هذا التمايز الواضح بين زينة ومهيمن في الرؤى والمواقف لن يحول دون شعور غامض بالرغبة والخوف يغزو زينة، ويشدها إلى مرغوبها وأخيها.

     تميزت زينة بسلوك شرس وروح قيادية، لا تعير بالا للأنوثة والنعومة، وبانخراطها في الجيش الأميركي، وارتداء الملابس العسكرية، تلاشى ما تبقى من أنوثة فيها، فتحولت إلى كائن عدواني ومباشر لا يعرف المجاملة. وما أن التقت أخاها بالرضاعة حتى تكسرت دفعة واحدة كل تلك العناصر، إذ انبثق في عالمها "الرجل المستحيل" الذي هو "أول رجل في حياتي يشعرني بالخجل. كل الآخرين كنت ندا لهم. ينكّتون فأنكّت ويشتمون فاشتم ويبتذلون فأبتذل. وهو الوحيد الذي يمتلك الهيبة. هذا العصبي النحيل الملتحي، الذي ينضوي تحت لواء حركة طائفية متخلّفة، قلب أحوالي ومارس عليّ سطوة المعشوق. تكفي نظرة منه لكي ابتلع صوتي وقاموسي المتفلّت"(19).

    عرضت زينة على مهمين أن تقيم معه علاقة جنسية تتخطى تخوم الرضاعة التي جمعتهما قبل ثلاثين سنة صدفة، فلجأت إلى إغوائه وهما وحيدان في "عمّان". بل إنها تجرّأت وعرضت عليه الزواج "أتمنى لو يتزوجني رجل هنا، وأبقى في بغداد قطة أنيسة تحت قدميه". فقابلها بعزوف بارد، مراعيا الحرمات، فعاشت خيالات الأنثى التي تتعرض لكبح في رغباتها" كأن خيالاتي المستحيلة هي كل ما أقدر عليه. لكن هذا يكفي منه. قشة الحياة هي كل ما يلزم الجندية المهددة بنذر الموت"(20)". كانا ينتميان إلى عالمين مختلفين، فمن الصعب أن تكون الأميركية المسيحية المجندة في جيش الاحتلال قد سقطت أسيرة في حب رجل شيعي متطرف في جيش المهدي، فهي غير قادرة على المنح الحقيقي، وهو يرفض بإصرار بذلا أخويا يعدّه سفاحا، فقد ناصب أميركا بأجمعها العداء، إنما هو خوف القوي من الضعيف. وفيما كانت القوات الأميركية تنكّل بجيش المهدي في الأحياء المعدمة شرق بغداد، كانت إحدى مجنداته تتودّد، في عمّان، لأحد أفراده. يتصاغر الجلاد أمام الضحية، فتنهار رمزية الاحتلال بكاملها.

    وقعت زينة أسيرة تخيلات بأن أخاها سوف يقتلها كون العداوة بينهما أشد من رابطة الأخوة، فجاء توددها له، ومحاولتها ابتذال جسدها له، احتماء به، إنه نوع من الخداع النفسي "أفكّر أن قاتلي قد يكون مهيمن أو أحد رفاقه. فكرة جامحة تضعني على شفير الهاويات الكبرى. سيتقدّم نحوي مجاهد ملثّم من أولئك الذين أرى صورهم على المواقع الأصولية، وحالما يحاذيني يغرز سكينا في خاصرتي. وسأتشبّث به، وأنا أتهاوى على الأرض واكشف لثامه. ثم ابتسم مستريحة للموت الذي زارني على يده. وسيرفع هو خوذتي ويطلق صرخة خرساء حين يرى وجهي. سيدرك أنه أسال بسكّينه دم أخته. حلم أراه وأنا مفتوحة العينيين فينشف ريقي وتتيبّس كفّاي"(21).

   ليس هذا حبا إنما هو خوف مبهم. يُمسي القاتل خائفا من القتيل. وتتناثر الشخصيات في العالم الافتراضي للسرد، فلا تعرف معنى للودّ، وصلة الرحم، ولم تفكّر بالمصالحة، فتستقطبها مواقف متطرفة، وتتغذى بأيدلوجيات رهابية. ولو أتيحت لها الفرصة لنكّلتْ بعضها ببعض. مساراتها متوازية، ولم تلتق في أية نقطة جامعة لتعيد ترتيب علاقاتها، ولم تتفق على شيء. ينتهي النص كما بدأ موزعا بين محتلٍّ ومقاوم. حتى الأحاسيس الإنسانية الدفينة كُبتتْ في الأعماق، وطُمرت، وفسدت، ولم تحفر مجرى للتواصل والألفة.

      تعود زينة إلى بلادها ضمن حملة غزو، ويكون أخوها مقاوما. تحاول هي إخفاء علاقتها بالاحتلال فيما يصرّح هو بمقاومته. تستدرجه للاستمتاع الجنسي، لكنه يحترم القواعد الرمزية للأخوة. تعرض نفسها بشهوة عليه، فتقابل بصدوده. يمتثل مهيمن لقيم دينية وانتسابية ثابتة، فقد تعلّق بإيمان ديني، وقاوم غزوا أجنبيا لبلاده، فيما حاولت زينة بعودة معاكسة أن تسهم في احتلال بلدها الأصلي، وتخطّى مفهوم الأخوة امتثالا لرغبة جسدية صارت تجتاحها شغفا بأخيها وخوفا منه. لا تبحث زينة عن تفسيرات لأفعالها، فيما ظل مهيمن أمينا لشروط وجوده الوطني والشخصي. وترتب على ذلك أن بقيت زينة إلى النهاية تخادع، وتخفي صلتها بالاحتلال، فيما كان يجهر الآخرون بمواقفهم. الحلقة الواصلة بين الطرفين كانت رحمة وطاووس.

     التقت الجدّة رحمة بطاووس على خلفية إنسانية تجاوزت حبسة الانتماءات الدينية والعرقية والطائفية، أما الأحفاد فتقاتلوا بأوهام الهوية الجديدة. حل السلام بين الأجداد، وحكمت الحرب عالم الأحفاد. لم تلمس أية حساسية على الإطلاق في علاقة المسيحية الآشورية رحمة بالمسلمة الشيعية العربية طاووس، فقد تآلفتا مدة نصف قرن، وأثمر ذلك عن أخوّة. جيل الأحفاد هو الذي افتعل الصراع على الهوية. حينما انتهى عقد زينة كمترجمة في الجيش، وعادت إلى أميركا "انشطرت نصفين، ما قبل بغداد وما بعد بغداد". إنها ليست قادرة على استرجاع حياتها السابقة ولا التآلف مع حياتها الحالية. وبوصولها ديترويت، اغتسلت، فلم يتساقط عنها "غبار الشجن" الذي جاءت به من العراق" ظل عالقا بي مثل قريني. سيبقى معي يكمل تربيتي"(22).

    وتتدخل الأحلام في صوغ الدلالة الأخيرة للراوية، وهي ترصد كثيرا من الأحداث قبل وقوعها. نُقلت زينة من أميركا إلى قاعدة عسكرية في ألمانيا، ثم بطائرة شحن عسكرية إلى بغداد للالتحاق بالجيش مترجمة. خلال الرحلة الطويلة شعرت بالقرف، لكن بدخولها الأجواء العراقية تغير مزاجها "خيّل لي أنني أشمّ عبق زهر القداح على أشجار النارنج في الحدائق، والرائحة الشهية للدخان المتصاعد من السمك المسقوف. حالة لم تدم أكثر من دقيقة، أطفئت بعدها الأنوار الكاشفة لأننا بدأنا نحلّق في سماء بغداد"(23). هبطت الطائرة في مطار بغداد، فاكتشف الجميع أنهم دفعوا إلى تهلكة مؤكدة. كانت الفوضى تعمّ المكان، وثمة عاصفة رملية حمراء غير مسبوقة، فهي الحرب بعينها.

    تعذر على زينة فتح عينيها لترى بلادا غادرتها منذ خمسة عشر عاما، وجاءت الآن لتخدم في جيش احتلّها، تعثرت، وشعرت بالضياع، فكأنها عمياء. زحفت بصعوبة إلى قاعة مهمشة الزجاج، وهنالك" لمحت في كل زوايا الصالة الكبيرة جنودا أميركيين يحتضنون خوذاتهم ويغطّون في نوم مستغرقين في أحلام لا علم لي بها. ولم يكن منظرهم منظر من ينام نومة متقطعة تقلقها الهواجس والكوابيس، بدوا لي، أنا التي يكاد ظهرها ينقصف من الألم، أنهم يرقدون في أحضان حبيباتهم بعد مضاجعات عنيفة امتصت قواهم، يغفون غير مبالين بالزلزال الذي هزّ المدينة، ولا بما ينتظرهم فيها عندما سيفتحون أعينهم في الغد. والغد كلمة غامضة في قواميس الحروب"(24).

    بان التذمر على خلفية إجهاد كبير، وجو رملي عاصف، وحيرة. كل من يتهيأ لخوض تجربة جديدة مثل هذه لابد أن يظل في حالة من الترقب. ولكن ماذا فعلت زينة التي كانت عراقية من قبل، وأصبحت الآن أميركية غازية؟. دفعت حقيبتها إلى الجدار، واستلقت، ثم نامت حتى الصباح، فحلمت بحلم عجيب، وهي بعدُ لم تر من بغداد إلا المطار المخرّب "رأيتني أطرق باب جدّي يوسف في شارع الربيع وأنا مرتدية فستان عرس بنفسجي اللون. لم يكن البنفسجي من ألواني المفضلة لكن الأحلام لا تترك لنا رفاهية الاختيار. وقد فتح جدّي الباب ولم أخف منه رغم علمي، وأنا في الحلم، بأنه قد مات. وسألته:

- متى جئت من السفر؟

ردّ:

- قمت من يومين. أردت أن أحضر عرسك يا سناء.

  لم أصحح له اسمي، ولم أقل له إنني زينة، أو زوينة كما اعتاد أن يناديني، لكن جدّتي رحمة أطلّت من وراء كتفه وقالت:

- هذي زُنزُن، ألم تعرفها؟ المـﮔرودة تزوجت وأنت غائب وهاهي تعود إلينا بعد أن ترمّلت... يا عيني عليها.

    اجتزت باب الحديقة وتقدّمت من جدّي لكي أقع على يده وأقبلها. لكنه سحبها فانسحب جسده بالكامل من المشهد. وفي اللحظة نفسها تحول فستان عرسي إلى الأسود وبقيت جامدة في مواجهة جدتي، نتبادل نظرات الأسى في الحلم"(25).

     يكتنز هذا الحلم سائر الإشارات الدلالية المتناثرة في الرواية حول علاقة زينة بجدّّيها وبالعراق القابع في خلفية الذاكرة متواريا. ولا يحضر شيء له صلة بأميركا ملاذها الجديد. ظهرت زينة الحالمة بفستان بنفسجي، ولم يكن هذا لونها المفضل. فقابلها جدها، وكانت تعرف أنه توفي، تسأل هي عن العودة، ويتحدث هو عن القيامة. يناديها بسناء فيما كانت هي زينة، يتحدث هو عن الزواج وتتحدث الجدّة عن الترمّل. وبإزاء هذه التعارضات تتقدم لتقبيل يده كأنها تعتذر عن كونها جاءت غازية، فيأبى، ويتلاشى وجوده. يتحول ثوب الزفاف البنفسجي إلى رداء الحزن الأسود، وتتبادل الحفيدة والجدة نظرات الأسى. يرصد الحلم سائر الأحداث التي تخص علاقة زينة بموطنها القديم، فقد قطعت عن جذر عميق، وظهرت كأرملة، وانسحب الجدّ من عالمها حينما شرعت بتقديم الاعتذار، وتحول فستان الزواج إلى رداء للحزن.

4. المحبوبات: المنفى، والهوية النسوية.

     ولم تنقطع رواية "المحبوبات" لـ"عالية ممدوح" عن قضية المنفى والهوية، فهي تعوم على مجموع متلازم من أخبار النساء المنفيات وأوضاعهن، وقد أجبرن على ترك أوطانهن الأصلية، ولُذنَ بسواها، فتقاطعت مصائرهن مع مصير" سهيلة أحمد" ممثلة المسرح العراقية التي تعيش وحيدة في باريس بعد أن نزحت عن بلادها، وهاجر ولدها "نادر" إلى كندا، فتُركت وحيدة، عزلاء، وسقطت في غيبوبة فاقدة الوعي في غرفة العناية المركزة (=المكثفة) في أحد المستشفيات الباريسية. أصبحت الصالة المجاورة لغرفتها ملاذا لإعادة تشكيل العلاقات الحميمة بين نساء قدمن من بلاد وثقافات مختلفة، وهن "المحبوبات" اللواتي تسري بينهن عواطف الأنوثة الأبدية. حالة سهيلة بين الموت والحياة كانت مناسبة لبعث الاهتمام بالماضي والحاضر، وبوضع الذات الأنثوية تحت الضوء.

      بوصول الابن من "مونتريال" لمتابعة الحالة الحرجة لأمه، تتفتح الذكريات المتداخلة، فإذا بالأم العراقية التي اصطحبت ابنها إلى المنفى ضحية زوج عسكري مشبع بالروح الإسبارطية وقد ظل يكبح موهبتها الفنية طوال حياتهما في بغداد، فلم تتمكن من تقبل النزوع العسكري المفرط في عنفه، فأجبرت على حياة لم تتكيف معها، فتركت بلادها حينما وجدت تعارضا بين أحلامها وواقعها. فمن بلد راح ينغلق على نفسه بسبب الاستبداد والحروب، هربت "سهيلة" معتقدة بأنه ينبغي عليها مواصلة حياتها في ظروف أفضل، وقد تشبّعت بفكرة أن الرقص شاف لكل الأمراض "كانت تسكنها روح الرقص العراقي القديم، من طقوس السومريين حتى الوقت الحاضر. تعتبر الرقص طريقة للتحرر ولرفع النبذ عنها بالدرجة الأولى وعن بلدها". ولطالما رددت بأن الرقص هو لغتها، وهو "الذي يجعل من الفن نقطة مشتركة بين الجميع، جميع البشر" وهو الذي "يزيد مناعتها تجاه القهر الذي كانت تعانيه، ويقوي الاختيار ما بين الحياة والفناء، ولذلك أدمنت عليه"(26).

    أدى سقوط "سهيلة" فاقدة للوعي، ومكوثها في غرفة العناية الفائقة إلى حشد الشخصيات النسوية حولها، فتلقت دعما منقطع النظير من "المحبوبات" اللواتي كانت تسميهن" فصوص الألماس" وهن اللواتي قدمن لها رعاية عاطفية متكاملة على الرغم من عدم إدراكها لكل ذلك، كما غمرن ابنها "نادر" القادم من كندا لعيادة أمه بكل ضروب الرعاية. وخلال ذلك لا يظهر اهتمام إلا بالحب، والتواصل، وبالطعام، والفن، واستعادة الذكريات، فعالم النساء يقترح جملة من العناصر التكوينية المختلفة عن عالم الرجال المملوء بالوعود والرهانات الكبرى.

     أهدت عالية ممدوح روايتها إلى المفكرة النسوية "هيلين سيكسو". وهذا الإهداء سيرسم أفق تلقٍّ خاص لأحداثها، فهي بكامل أطروحتها السردية تندرج ضمن رهانات الفكري النسوي الباحث عن كتابة تحتفي بهوية الأنثى التي تقوم على الترابط، ونبذ التفرّد، وثلم كل أنانية ممكنة كرستها الثقافة الذكورية. تتمركز الأحداث في الأدب الذكوري حول انجاز فردي يقوم به رجل، وبوجوده تكتسب تلك الأحداث قيمتها، ومن عالمه الفكري تشتق المعاني أهميتها، فهو المركز الذي يصدر عنه إشعاع يضيء الشخصيات الأخرى التي تتراءى مثل أشباح في مجال الشخصية الرئيس، وحينما يجري الحديث عن أدب أنثوي فلابد من نقض تلك المبادئ، واقتراح أخرى بديلة تقوم الانسجام، والتواصل، والشراكة، وتدفق المشاعر، وليس الفردية، والأنانية، والصلابة، والسيطرة.

      المحبوبات نسوة متضامنات كدن يستغنين عن الرجال، بعد أن مررن بتجارب مؤلمة، وحصدن إخفاقات نفسية وجسدية، وهن يتواصلن عبر الأحاسيس الجياشة، والأحزان المتبادلة، والرسائل التذكّرية، واليوميات، وإيماءات الحزن، والطبخ، واحتساء النبيذ، والموسيقى، ويكافحن بعيدا عن هيمنة الأزواج، والآباء، والإخوان، ويمكثن وحيدات، يتبادلن مواقعهن، ومواطنهن، وعواطفهن، وجميعهن مشدودات إلى أنوثة ناعمة تواجه كبحا عاما، وتهميشا مقصودا، فيلجأن إلى تواصل داخلي متين فيما بينهن، يستعضن به عن تواصل مبهم مع رجال ينتهي الأمر معهم إلى الاستئثار بكل شيء. يتطلع الأدب الأنثوي إلى إبطال مفعول علاقات التبعية، واقتراح علاقات الشراكة.

     افترضت "سيكسو" إمكانية لظهور "كتابة أنثوية" على قاعدة الاختلاف في وظيفة اللغة بين المرأة والرجل؛ فبما أن اللغة عرضت تمثيلا سلبيا للمرأة عبر التاريخ، فلابد أن تختص الأنثى بلغة بديلة تقوم بتمثيل تجاربها. فلا خيار للمرأة إلا بترسيخ مفهوم أنثوي للكتابة يتخطّى الحبسة التي فرضتها عليها الثقافة الأبوية الذكورية. وفي كل ما يتصل بالكتابة النسوية ينبغي مراعاة موقع الأنثى ضمن النسق الاجتماعي، إذ يمكن بالكتابة التي تحتفي بالأنوثة أن يقع تعديل جوهري في موقع المرأة. وقد عبرت دعوة "سيكسو" عن نفسها بكتابة تعتمد على "تراكيب مائعة توحي بالشهوانية وصورا وتوريات جديدة ونماذج جديدة للغياب بقصد تحرير جسد المرأة من الأساليب السائدة للتصوير"(27). وكانت في سائر أطروحتها النسوية تربط بين "طريقة الكتابة النسائية وآليات جسد المرأة"(28).

     طرح مفهوم الهوية الأنثوية من خلال علاقة "سهيلة" المنفية في باريس، بشخصية "تيسا هايدن" الكاتبة النسوية، والأستاذة في الجامعية، وقد ظهرت أفكار"سيكسو" تحت قناع شخصية "تيسا" التي أصبحت مثار اهتمام سهيلة ومحط شغفها، فكانت تتابع ما تقترحه حول الكتابة الأنثوية، وضمّنت أفكار تيسا في سياق ذكرياتها، وعرضت فكرتها عن الكتابة التي تقوم على طرح" المؤنث بالمعنيين الفكري والفلسفي في مواجهة المذكر المسيطر في بنية التفكير الأبوي وتراكيبها اللغوية والفلسفية معا".

     جاء تعلّق سهيلة على هذه القاعدة المتينة التي يقوم عليها الفكر النسوي بالصورة الآتية "كنت أقرأ أفكارها وأهتف في سرّي، إنها استجابت لأسراري أنا، وهي تواصل كشف ذلك العالم وسبر غوره، في محاولة منها لتفكيك البنية الأبوية المستقرّة لدور حواء المتمرّدة، مقابل دور آدم الانصياعي لأمر التحريم غير المفهوم. فقد استجابت حواء لرغبتها- أو بالأحرى لإنسانيتها باعتبار أن الإنسان كائن يخطئ- وغامرت هي بالتمرّد والأكل من الشجرة المحرّمة، بينما استجاب آدم للسلطة والقانون الوضعي وأعرافهما، بالرغم من أنهما وُضعا له، ولم يضعهما بنفسه. وفضّل ديمومة النظام على مخاطرة التمرّد الذي سرعان ما جرفه معه عندما لم يستطع مقاومة سحره الأخاذ. ولذلك، تطرح مواضيع الرغبة في مواجهة القانون والذات في مواجهة النظام، الأنثى في مواجهة المذكر منذ البداية.

    وهي تجد أن هذه القصة البدئية في الميراث المعرفي للإنسان، هي التي تبلور الطريقين الأساسيين المطروحين أمام الإنسانية منذ فجرها الأول. الانصياع للأمر المقرر وجني ثمار الطاعة العمياء التي أتاحت للرجل منذ فجر التاريخ أن يصبح أسيرا السلطة، وحكمت عليه بأن يكون عبدا لأعرافها ومواضعاتها، وضحية لصراعاتها في الوقت نفسه، بينما دفعت المرأة ثمن تمردها ولاحقتها اللعنات الدينية والأبوية لزمن طويل، وإن لم تستطع أن تأسر رغبتها أو تقيّد شغفها الدفين للتمرّد. وأهم من هذا كله، على المستوى الفلسفي، علاقتها بالآخر، منذ أن أدى أكلها من شجرة المعرفة إلى اكتشاف آدم مغاير من ناحية، وإلى اكتشاف مبدأ الرغبة/ اللذة معا من ناحية أخرى"(29).

    وجدت سهيلة في أفكار تيسا المعادل التعبيري لأحاسيسها وتجربتها، فتماهت مع شخصية حواء المتمردة بمواجهة آدم التابع، واستثيرت بالتعارض القائم بين الرغبة وكيفية صدّها، أي بين النزعة الفردية الأصلية والسلوك الجماعي الكابح لها، وقادها ذلك التمايز الأولي بين موقعي الأنثى والذكر في حكاية الخروج من الفردوس إلى اختلاف أكبر بين رؤيتين للحياة: رؤية المتمرد، ورؤية التابع، وبسبب الأنانية والاستئثار انبثقت فكرة الآخر في التاريخ حينما خرّب آدم مبدأ الشراكة. ومن الطبيعي أن تجد سهيلة في كل ذلك حالة داعمة لحالتها الشخصية كونها تمردت على زوج نذر نفسه لتخريب موهبتها، فانتهى بها الأمر إلى أن استجابت لنزعتها المتمردة التي ورثتها عن حواء. على أن ذلك لم يرتق إلى مستوى الانشقاق السلبي، فقد ظلت سهيلة تبحث عن ذرائع للرجال، وترأف بهم، كونهم غير واعين لمبدأ الاستئثار الذي يقودهم في مسالكه المتشعبة إلى اقتراف أكبر الأخطاء، فلم تنتبذ موقعا تنتقم فيه لنفسها، إنما تبنت فلسفة الصفح والغفران.

    أشاعت سهيلة بين المحبوبات مبدأ هضم الأذى، وكلما كن يتعرضن لقهر من الرجال كن يصفحن عنهم، فمصدره رجال ثبت قصورهم عن إدراك الحقائق الكبرى للحياة. وما كان يثير سخطهنّ هو رأفتهن بالرجال عمّا يقترفون من أخطاء لا معنى لها، فكن يتحمّلن الأذى، فلا تمكث سوى الندوب الجارحة في الأعماق حيث يطمرها النسيان بمرور الزمن. وكانت تنوب عنهن في الإفصاح عن هذه المنطقة السرية من علاقة المرأة بالرجل "الشيء المذهل، أننا كنسوة، نبدو وكأننا صفحنا عن كل شيء؛ الألم الشديد، الرفسات في القفا، والهراوات العسكرية. كان المسدس في بعض الأوقات، يخرج من الدرج ويصوّب علينا خلال ثوان، فيشعرون بلذة طاغية حين يشاهدوننا نستعد للفرار من أمامهم. نقصّ ذلك بعضنا لبعض، نتضاحك وتعود الصور لتبهرنا أكثر. كيف لم نهرب، كيف عدنا إليهم ثانية، نبتسم في وجوههم ونخفي استياءنا وراء الجدران العالية؟ لم نكن بلهاوات وسخيفات فقط، كنا نرفض النوم على السرير نفسه، أو ربما في الغرفة نفسها. لم نتعثر بثيابنا قطّ ونحن نحاول الفرار كما يتوهمون، بل كنا متأهبات؛ نتجلّد ونهزأ منهم حتى يسأموا ويكفّوا...كنا جميعا كنسوة، نعيش في الأحياء نفسها المسيجة بالأسلاك الشائكة والجدران الشاهقة، نركب العربات ذات الموديلات الحديثة، نتواطأ مع بعضنا البعض وتتستّر إحدانا على الأخرى. لكن أحدا لم يذكر أمامنا ولو لمرة واحدة، أنّ ما يحصل لنا كان بسبب أزواجنا القساة"(30).

     قدّم السرد تناظرا بين الذكرى والنسيان، تأتي الذكريات من الماضي البعيد، حيث التشرد، والقهر، والحزن، ويأتي النسيان من الحاضر حيث الترابط، وتبادل العواطف، والرعاية، والتضامن. وكلما تقدم الزمن ملأت النساء مساحة السرد، فهن جماعة متشابكة المصائر، لا تفصلهن فواصل ثقافية أو عرقية أو جغرافية. إنهن نوع عابر لكل شيء، ينتمين كلهنّ لهوية أنثوية جامعة، ويعرضن المساندة لبعضهن، وهنّ قادرات على التعبير عن مشاعر فياضة: سهيلة، كارولين، بلانش، وجد، تيسا، سارة، رباب، أزهار، أسماء، وليال، نرجس، ديالى، قدس، نور...الخ. ويتم التواصل بينهن بلغات متعددة كالعربية والفرنسية والانجليزية. ومعظمهن يتناوبن في عرض التجارب، فتبدو الرواية مزيجا من أصوات متداخلة تكافح ضد مبدأ التغليب السردي الذي تتبوأ فيه شخصية الرجل بموقع البطولة.

5. السراب الأحمر: اليوتوبيا بوصفها منفى.

   وتقترح رواية "السراب الأحمر"لـ"علي الشوك" نوعا من اليوتوبيا الصغيرة، كمكافئ سردي للاستبداد، وبديل له. ومعلوم أن فكرة اليوتوبيا انبثقت في المخيال البشري لتخطي حال الإحساس بالخوف والظلم؛ فهي البديل المتخيل لواقع يمور بالتناقضات التي لا سبيل إلى حلها، أو التكيف معها. يدفع الخوف من الاستبداد شخصيات الرواية لبناء مستعمرة صغيرة، والالتجاء إليها، وممارسة الحياة، وتبادل الأفكار، بعيدا عن الأنظار، فالاتصال بالطبيعة يأتي بسبب الخوف من الأيدلوجيا المستبدة التي تدفع بمجموعة من الشخصيات الشيوعية إلى الابتعاد عن بغداد، واختيار الطبيعة النائية حيث تتوفر الفرصة الكاملة للمسرّات الفكرية والجسدية.

    تختار الشخصيات منفى داخليا، وتتضامن فيما بينها، ويكاد يكون مركزها الأساس هشام المقدادي، وهو ناشط سياسي، وأكاديمي، خاتل السلطة لأكثر من ثلاثين عاما، فتعلم في أميركا، وتولى مسؤوليات وظيفية متعددة، وانتهى أستاذا في إحدى الجامعات العراقية، لكنه وجد نفسه بإزاء ضغط مباشر لينتمي إلى حزب السلطة، ولم يكن أمامه سوى أحد خيارين، إما الانخراط في حزب البعث امتثالا لقرار السلطة، أو الهروب إلى خارج العراق، وقد اختار الهرب لعجزه عن التكيّف مع الحال التي يراها انزلاقا خطيرا لا يمكن قبوله، ولا يمكن إيقافه. وبين الفترة التي اتخذ بها قراره، ثم الشروع بالمغادرة لاذ مع جماعة من أصدقائه من النساء والرجال بمنطقة نائية شمال شرق مدينة بعقوبة، فبنوا مستعمرة بدائية صغيرة، وهنالك، وسط طبيعة صامتة، وعزلة آمنة، يستعيد المقدادي، وتستعيد معه بعض الشخصيات تجارب الماضي، وكأنها ثرثرات تتم سرا في منأى عن الرقابة الأيدلوجية الصارمة لمؤسسة النظام. وقد أتاح هذا الإطار السردي للمقدادي لأن يفضي بتاريخه الشخصي، وبتجاربه الأيدلوجية، والتعليمية، التي مرّ بها منذ الخمسينيات الى نهاية سبعينيات القرن العشرين.

    يبدو الإطار الناظم للجماعة المتناغمة هو المستعمرة النائية، والعلاقات الحرة بين النساء والرجال، والتجارب السياسية شبه المتماثله لهم جميعا، والطعام والشراب، وباستثناء كونهم قرروا إنشاء تلك المستعمرة الصغيرة تحقيقا لفكرة اليوتوبيا، فإن الفعل السردي المناظر لفعل السلطة التي دفعت بهم إلى ذلك الاختيار يبدو غائبا، فبرواية نبذ من تجارب الماضي، والانشغال بثرثرات إغوائية جانبية لم تنجح الجماعة في تشكيل موقف بديل لموقف السلطة الاستبدادية، فليس ثمة أي إنتاج لفكرة بديلة، أو عمل مهم تستعيد به الشخصيات بناء عالم بديل وسط الطبيعة يكون نظيرا للعالم الذي تركوه في العاصمة بغداد.

    يبدي هشام المقدادي تذمرا متواصلا من حالة الانغلاق التي انتهت إليها السلطة السياسية في العراق في السبعينيات، لكنه هو بذاته كرّس انغلاقا مناظرا إذ اكتفى بشذرات من تجاربه خلال ثلاثة عقود متوالية، وتبدو النساء في حياته كأنهن مكملات تزينية، سواء كن طيبات كالزوجة الأميركية، أو سيئات كالزوجة العراقية، أو عشيقات راغبات مثل داليا، وفي جميع الأحوال ظهر المقدادي مجتثا، فقد انقطع الاتصال بينه وبين وطنه جراء أيدلوجيا مغلقة خرّبت فكرة الانتماء كما يريدها هو، ويتصورها، ويرغب فيها.

     لم يدفع المقدادي بفكرة اليوتوبيا إلى نهايتها الحلمية التي يمكن تحقيقها، حتى لو كان ذلك على سبيل الترجيح، وينطوي الفكر الماركسي على فكرة اليوتوبيا، كونه يقترح عالما يخلو من التناقضات الكبرى، فالرواية الشيوعية للتاريخ ونهايته تكتنفها الإثارة المجازية المشتقة من فكرة اليوتوبيا، شأنها في ذلك شأن المرويات الدينية التي ترسم للشقاء الأرضي نهاية سعيدة وخالدة في الجنة، لكن شخصيات "سراب أحمر" تنظم إيقاع حياتها اليومية، بما في ذلك، فكرة المستعمرة النائية، في منأى عن السردية الشيوعية للتاريخ، إذ تشغل بالماضي، وبالندم، وبذم أيديولوجيا الاستبداد، والاستغراق في المتعة، والهرب منها إلى الأمام، دون اقتراح أي عالم بديل، فاليوتوبيا الجديدة كانت ملاذا مؤقتا لم تتحقق فيه شروط العدالة إلا إذا عدت الأحاديث والمسامرات والعلاقات الحرة شيئا من ذلك. والحال هذه، فقد ارتسم في الفضاء السردي للرواية تبعية الشخصيات للمقدادي، سواء في كونه البؤرة المركزية أو في أحكامه عن الشخصيات الأخرى، فنسق العلاقات بين الجماعة الجديدة لم يقطع صلته بنسق العلاقات في العالم الذي هربت الشخصيات منه.

    يبدو المقدادي رجلا راغبا، ومستمتعا، بالنساء، والشراب والموسيقى، لكنه مهزوز، وخائف، ومرتبك، وينطوي على ذعر عميق يسكنه، فمقاومته الداخلية شاحبة، وقدرته على الثبات مخرّبة، وحينما قرر الهرب سرا خارج البلاد، قدم السرد حالته بالصورة الآتية "منذ تلك اللحظة أحس بأنه جرّد من كل شيء: على حين فجأة نأت عنه هذه المدينة التي كان كل ما فيها جزءا لا يتجزأ منه ومن ذكرياته ومن الفضاء الذي يتحرك فيه. حتى سيارته التي عاد فيها إلى بيته، لم تعد تبدو في نظره شيئا يعود إليه. وحتى تحية جاره، الدكتور سلمان، بات لها طعم آخر، اغترابي، إنه إحساس من أحيط علما بأنه مصاب بالسرطان: إنسان من تخلت عنه الحياة، ولم يعد له موطئ قدم فيها. إن هذا العالم الذي انتمى إليه منذ خمسين عاما يبتعد عنه، يهجره"(31).  

    قبيل نزوحه من العراق بمدة وجيزة وقع المقدادي في غرام داليا، وقد كشفت العلاقة الحسية رؤيته للمرأة وللفن، فمرجعيته في كل شيء ذوقية وذهنية، لم ترتق إلى موقف صلب يمنح المرأة فرادتها الإنسانية، وهويتها الأنثوية الخاصة، فهو يريد صوغ علاقته بها في ضوء علاقته بالموسيقى والأدب. أنه يقارب المرأة التي أحبها عبر التمثيلات الفنية والأدبية المجردة، وقد ظهرت داليا في علاقته الجسدية معها مجرد مسخ لمثالات الفن والأدب، فكان يستعيد عبر جسدها مثالاته التخيلية، والحوار الآتي بينهما يكشف تصوراته تلك "ذهبا إلى غرفة نومه، وهناك تعريا، وأخذ هشام يجول ببصره وأصبعه في منحنيات جسدها الحريري، وقال لها: "أنت توكاتا نسيت رقمها!". "لمن؟". "لباخ". "أعرفها، لكنني مثلك لا أعرف رقمها". وقبل حلمتيها، وقال: "أنت سوناتا رقم 14". "تقصد سوناتا في ضوء القمر؟". "نعم". وقبل سرّتها، ثم قال: "أنت كونشرتو رقم 4". "لمن؟". "له، صاحب سوناتا في ضوء القمر". "لم أسمعها". "مذهلة، مثلك!". "أحبك، امتلكني!". "أريد أن أرتوي من منظر وملمس جسدك الحريري، أولا!". "أدخل فيّ..استعمل المانع". "سأستعمله". وقبل فخذيها، وقال: "أنت أوبرا الناي السحري...أنت لاترافيتا...أنت كارمن".  "امتلكني هشام". "أنت هابسيكورد...أنت فايولين...أنت سيتار". "أدخل في!". "أنت ما تيلد، أنت آنّا كارانينا". "أدخل فيّ، أرجوك"."أنت جولييت...أنت دزدمونة!". "هل تريد أن تخنقني! أدخل فيّ...ادخل.. ادخل..." ودخل فيها، وقال بعد لحظات:"أنت مذهلة في أعماقك السفلى!"(32).

    لم يتمكن المقدادي أبدا من تخطي الشروط الذهنية والذوقية، فلم يكن يقارب أنثى يرغب فيها، وترغب فيه، إنما جعل من صفحة جسدها مرآة لمثالاته الكبرى في فنون الموسيقى والأدب. لكن المفارقة تبلغ أقصاها، حينما نعرف أن أوصافه لجسد داليا مستعارة من الفنون السمعية والسردية، وليست البصرية، فجسدها كان ذاكرة إيقاع متخيلة لمعلومات خاصة به، لم يتحقق معناها، إذ لم يجر الاحتفاء بجسدها الأنثوي الحقيقي إلا في كونه يحيل على ما يعرف هشام المقدادي، ويريد.

    بانزلاق المقدادي إلى منطقة المقارنات المبسّطة بين امرأة وجملة من المثالات الفنية الشائعة، فقد الشرط الإنساني الذي يمنحه القدرة على بلورة مفهوم لهويته الشخصية أو هوية المرأة التي عشقها، وذلك أعاق بدوره نمو فكرة اليوتوبيا كبديل للاستبداد، حينما تخلّى عنها، وعَلَق في رغبة جسدية عارضة مُسخت بمبدأ المقارنة. ثم انتهاء المقدادي إلى موقف تنكّب فيه للمقدمات التي طرحها السرد عنه، فالخلط بين الأيدلوجيات الذهنية، والنزوع الفردي للفنون، لا يفضي إلا إلى البحث عن حالات من التماهي بين التجارب الثقافية ووقائع الحياة، ولذلك شحب أثر الاستبداد، وأهملت الشخصيات الأخرى، وجرى تعقب متسرّع لمصير المقدادي في قدرته على المقارنة بين مثالاته العليا، وامرأة عرضت له في لحظاته الأخيرة في وطنه قبل أن يهرب منه.

 

 

الهوامش

1. إدوارد سعيد، تأملات حول المنفى، ترجمة ثائر ديب، بيروت، دار الآداب، 2004، ص 126-127

2. تزفتيان تودوروف، نحن والآخرون، ترجمة ربى حمود، دمشق، دار المدى، 1998ص384-385

3. إدوارد سعيد، المثقف والسلطة، ترجمة، محمد عناني، القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، 2006، ص92

4. علي بدر، حارس التبغ، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2008، ص 10

5. م.ن.ص 24

6.م.ن.ص 87

7. م.ن. ص14

8.م.ن.ص12

9.م.ن.ص 12-13

10.م.ن.ص 329

11.م.ن.ص13-14

12.م.ن.ص 14

13.م.ن.ص ص 154-155

14. إنعام كجه جي، الحفيدة الأميركية، بيروت، دار الجديد، 2008، ص18

15.م.ن.ص 23

16.م.ن.ص49

17.م.ن.ص 138

18.م.ن.ص144

19.م.ن.ص 130

20.م.ن.ص 136

21.م.ن.ص 139

22.م.ن.ص 195

23.م.ن.ص 39-40

24.م.ن.ص 43

25.م.ن.ص44

26. عالية ممدوح، المحبوبات، بيروت، دار الساقي، 2007، ص 77و78

27. سارة جامبل، النسوية وما بعد النسوية، ترجمة أحمد الشامي، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2002، ص295-296

28. م.ن.ص 296

29. المحبوبات، ص219-220

30.م.ن.ص 9

31. علي الشوك، السراب الأحمر: سيرة حياة هشام المقدادي، دمشق، دار المدى، 2007، ص9

32. م.ن.ص ص333-334