العدد الثامن - صيف 2009م

فصلية تعنى بالكتابة الجديدة

   
 

دراسات

 صـــورة المــرأة فــي «أحــلام... نبيلــة»
البحث عن الذات (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

د. حفيظة صالح الشيخ

مقــدمـة:

تشكل بعض الأعمال الروائية مرجعية هامة لقراءة التحولات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية الحادثة في مجتمع ما من المجتمعات؛ فمثلاً قراءة الثلاثية لنجيب محفوظ تعطينا صوراً موضوعية ليس فقط للتحولات التي جرت في مدينة القاهرة، وإنما لمجمل تحولات الطبقة الوسطى المصرية.  وفي ضوء ما تقدم يحق لنا أن نتساءل: هل استطاعت الرواية اليمنية أن تتمثل تجليات الواقع الاجتماعي اليمني عبر تحولاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية أثناء تشكله التاريخي؟! بمعنى آخر: هل نستطيع من خلال قراءتنا للرواية اليمنية أن نخرج بتصور موضوعي لمجمل التحولات الحادثة في المجتمع؟ وكيف كان موقف الروائي اليمني تجاه تحولات مجتمعه، تلك التغيرات أو التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي أحدثتها الثورة في حياة اليمنيين والتي لا يستطيع أحد من الإنس أو الجان أن يشكك فيها كحقيقة ناصعة، بتعبير الدكتور عبد العزيز المقالح(1)؟ إن من يقرأ الرواية اليمنية لا يغيب عنه ارتباطها بالواقع اليمني، بمحدداته البشرية والجغرافية والبيئية، وبالتعبير عن المراحل التاريخية المختلفة؛ لأن الروائي، كأي فنان، يطرح في عمله الروائي نسقاً فكرياً يعكس موقفه من الكون والطبيعة والإنسان، وهو يخلق عالمه الروائي ليعبر من خلاله عن وجهة نظره التي تعد المثير الأول الذي حفزه للكتابة؛ إن الروائي وهو يقدم وجهة نظره يعتقد أنها ستصل -حتماً- إلى المتلقي وستبقى في وعيه حتى بعد الانتهاء من القراءة، كقضية آمن بها وسعى إلى طرحها وتقديمها.  وقد كانت الواقعية هي الرؤية الفنية التي استجاب لها غالبية الروائيين اليمنيين، رغبةً منهم في أن تكون كتاباتهم تصويراً أيضاً للواقع وللمراحل التاريخية المقصودة. ومن هنا يمكن القول إنه لا يوجد مذهب أدبي يفرض نفسه فرضاً على العصر دون أن تكون هناك ضرورة وحاجة اجتماعية، جمالية فكرية، يظهر صدىً لها.  وقد أشار بعض النقاد إلى العلاقة الحميمة بين الرواية والتاريخ، فقال: «الرواية بنية زمنية متخيلة خاصة داخل البنية الحديثة الواقعية، أو هي تاريخ متخيل خاص داخل التاريخ الموضوعي»(2).

إذاً، الرواية ثمرة للبنية الواقعية السائدة: الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، الحياتية، والثقافية، على حد سواء. وبناءً عليه فإن القطاع النسوي واحد من الشرائح الاجتماعية التي يضمها المجتمع. والسؤال هنا: كيف بدت هذه الشريحة روائياً؟ كيف انعكست صورتها وأوضاعها وأحوالها في الفن الروائي في المجتمع العربي عموماً، واليمن على وجه الخصوص؟ لقد استخدم بعض الروائيين العرب صورة المرأة أداة فنية للتعبير عن الأزمات التي تمر بها المجتمعات نتيجة سوء توزيع الثروات الاقتصادية، ونتيجة التمييز في الهوية الجنسية الـ(Gender) بينها وبين الرجل.  وصورة المرأة في الرواية أكثر استقطاباً لحركة الواقع، وأغنى دلالة، وأشد رهافة وحساسية، في تعبيرها عن الواقع، من صورة الرجل(3).  وأما الروائيون اليمنيون فقد ارتأى البعض منهم أن قضايا المرأة: تعليمها، تثقيفها، تحررها الفكري، استقلالها الاقتصادي، وتمكينها من المشاركة المجتمعية، هي اختصار لقضية كبرى أشمل وأهم، هي قضية الوطن ومستوى حريته وتقدمه. من هنا يصبح الاهتمام بقضايا المرأة ليس مطلباً إنسانياً فحسب، بل إنه ضرورة للتقدم القومي، لأنه من خلال وضعية المرأة في أي مجتمع يمكن قراءة الأيديولوجيات أو الاتجاهات الفكرية والسياسية والاجتماعية لهذا المجتمع أو ذاك.  وقد أسهم بعض الكتابات النسوية اليمنية -على قلتها- في تبني قضايا المرأة، التي كانت قبل الثورة اليمنية نسياً منسياً، مبدعةً أم موضوعاً للإبداع. ومن هنا فإن «إسهام المرأة في الكتابة الأدبية يعد موقفاً حضارياً لا بد من التنبه إلى أبعاده الاجتماعية والثقافية والسياسية الإيجابية»(4)، لاسيما في مجتمع يقر أبنية فكرية واجتماعية تفرض وضعاً مهمشاً ودونياً للمرأة. وفي هكذا وضع فإن المرأة/ الكاتبة اليمنية حاولت، أسوةً بغيرها من الكاتبات العربيات، أن تواجه سلطة المجتمع التي تمارس ضدها بسلطة أخرى هي سلطة التخييل(5). ومن رحم هذا التخييل ولدت قصة الروائية اليمنية عزيزة عبد الله: «أحلام... نبيلة»، التي هي محور هذه المقاربة النقدية.

الملخـــص:

التقت الروائية/ الكاتبة بـ»حليمة» لدى إحدى قريباتها في جلسة «تخزين». وقد كانت «حليمة» تحمل على كتفها طفلة في الرابعة من العمر (نبيلة)، ابنة أخيها. وعندما اكتشفت الراوية/ الكاتبة أن الطفلة مريضة، سارعت إلى إسعافها لدى أقرب مستشفى، ثم أصبحت تتردد عليها. وفي هذه الأثناء تعرفت عن قرب إلى «حليمة»، ودعتها إلى منزلها؛ بدافع فضولي لمعرفة هذه المرأة غريبة الشكل والأطوار، ولمعرفة قصة الطفلة المريضة أيضاً.  وفي جلسة «القات» التي جمعت المرأتين بدأت «حليمة» في سرد فصول قصة حياتها، بإسهاب ودون توقف، حتى عندما تذهب المستمعة إليها لتغيير «البوري» الذي خمدت جمراته واستبداله بآخر أكثر توهجاً.  سردت «حليمة» ذكرياتها بدءاً من تزويجها من قبل أبيها لصديقه الذي قدم وإياه من المهجر، وهي في الرابعة عشرة من عمرها. وبعد زواجها رزقت بطفل أسمته «أحمد». وبعد ثلاثة أعوام من الزواج عاد زوجها من المهجر وتبين لها أن العلاقة بين أبيها وصديقه (زوجها) قد ساءت، وكانت النتيجة أن تجاذبها الأب والزوج، الأول يهددها بالقتل إذا لم تتبعه إلى بيته، والثاني يغلظ الأيمان بالطلاق إن هي خرجت من بيته؛ لكنها خافت أباها القاسي، وخشيت القتل، فتبعته وتم طلاقها، وبالتالي حرمانها من ابنها. وتتزوج «حليمة» للمرة الثانية من رجل يختاره أبوها أيضاً، وترزق منه بطفل آخر أسمته «هادي»، ولكن ولديها يقتلان برصاص طائش من سلاح أبيها الذي كان في يد أخيها «راجح» يعبث به ويجربه، وكانت النتيجة أن قتل الطفلان. ولكنها ترزق مرة أخرى بولد تسميه «هادي» أيضاً.  وجدت «أحلام» نفسها مسؤولة عن أسرتها بعد خروج أبيها من القرية واستقراره في صنعاء وزواجه من امرأة أنجبت له ولدين. بقيت «أحلام» في القرية ترعى زوجها وطفلها وأمها المشلولة وأخاها «راجح» قاتل ولديها بعد الصفح عنه ودفع الدية التي رفض زوجها الحالي أخذها، بينما أخذها الزوج السابق وظل يهدد «راجح» بالقتل انتقاماً لولده.  وبعد موت أبيها وزواج امرأته من آخر، وخوفاً من «حليمة» على أخيها (القاتل) تنتقل إلى بيت والدها في صنعاء وتضم أخويها -اللذين رفضهما زوج الأم- إلى أفراد الأسرة وترعاهما كما ترعى ولديها وأخاها وأمها المريضة وزوجها الذي يتعذر عليه الحصول على عمل فيولي باتجاه الهجرة، كما يهاجر أخوها «راجح» أيضاً.  أخذت «حليمة» -التي أحبت أن تغير اسمها إلى «أحلام»- على عاتقها مسؤولية أفراد الأسرة المستقرين والمهاجرين، ألزمت نفسها برعاية هذه الأسرة ولمّ شتاتها أملاً منها في عمل ما لم يستطع أبوها أو أحد من أفراد الأسرة عمله؛ قدمت نفسها راضية مختارة قرباناً وكبش فداء لأفراد أسرتها الذين تحبهم جميعاً دون تفرقه أو تمييز، بل وحملت مسؤولية زوجة أخيها المصرية التي تزوجها «راجح» في مصر وجاء بها إلى اليمن، ثم هاجر، ثم عاد، وبعدها هاجر ولم يعد أحد يعرف وجهة سفره أو شيئاً من أخباره، اللهم إلا من بعض الحوالات المالية الشحيحة التي يرسلها لـ»حليمة». وينضم إلى أفراد الأسرة «نبيلة»، ابنة «راجح»، التي تركتها أمها وهي في الشهر الثاني من عمرها وعادت إلى وطنها (مصر).  خيل لـ»أحلام» أنها ستتمكن من قيادة الأسرة بمردود الأرض القليل وبالحوالات التي يرسلها أخوها بشكل نادر، والتي يرسلها زوجها بانتظام بينما تأخذها هي وتقوم ببناء طابق ثان فوق منزل أبيها الذي أوصى به لولديه القاصرين فقط، رغبةً منها في لـمّ الشمل ومواجهة ظروف الحياة مجتمعين، لكن حرصها على مصلحة أفراد أسرتها جاء على حساب علاقتها بزوجها، الذي اتخذ لنفسه زوجة أخرى دون أن يعلمها، وتزامن هذا الأمر مع وفاة زوج امرأة أبيها التي أصرت على الحياة في بيت ولديها، وطلبت من «أحلام» أن تبحث لها عن مسكن آخر هي وأمها وولديها و»نبيلة»، وساعد أخوها «عبد الرحمن» والدته في هذا المطلب، الأمر الذي وقع كالصاعقة على رأس «أحلام»، التي ما زالت أعماقها تنزف لخيانة زوجها لها.  استنكرت «أحلام» بينها وبين نفسها أن يكون مصيرها وأولادها إلى الشارع، على قارعة الطريق، وملأ الحقد قلبها على زوجة أبيها، وأخيها عبد الرحمن، وزوجها فقررت أن تنتقم منهم، ليس هذا فحسب، بل قررت أن تنتقم من كل من ظلمها أو استغلها أو استغفلها، قررت أن تميت بداخلها «حليمة» و»أحلام» وأن تكون «أحلام جديدة». بحثت لنفسها عن طرق خاصة في الانتقام، فلجأت إلى «أمة الملك» زوجة المسؤول الكبير والتي تتمتع بنفوذ واسع، وأتباع ينفذون لها كل رغباتها. عقدت مع «أمة الملك» وقريبها تحالفاً شيطانياً استطاعت بموجبه أن تلحق الأذى بكل من تحمل له في قلبها حقداً وضغينة، بدأت بأخيها «عبد الرحمن» حيث أخذه قريب «أمة الملك» وأذاقه ألواناً من الذل والهوان بحجة بناء بيت دون ترخيص، فكانت النتيجة أن فقد أخوها عقله وانكمش في ركن غرفته، يرتعد من كل شيء، ولا يدرك شيئاً مما يدور حوله. وتنتهي الرواية بعقد النية من قبل «أحلام الجديدة» على ألاَّ تعود إلى «حليمة» أو «أحلام»، لأن «أحلام الجديدة»، القوية، القادرة، هي التي يجب أن تبقى لتدفع عن نفسها صفعات الأيام والقدر والبشر.

                            

يتناول هذا البحث رواية «أحلام... نبيلة» لعزيزة عبد الله، وهي المحاولة الروائية الأولى لها، ولكن نشرها قد تأخر إلى ما بعد صدور روايتيها «طيف ولاية» و»أركنها الفقيه». ويمكن بسهولة إدراك حضور العنصر النسوي في الإنتاج الروائي للكاتبة، التي جعلت من المرأة وقضاياها منهلاً تغترف منه موضوعاتها المحملة برؤاها ووجهات نظرها فيما يخص وضعية المرأة في مجتمع يحاول تخطي وتجاوز عتبات بنى فكرية وثقافية واجتماعية موروثة من حكم إمامي شديد الانغلاق تجاه حرية المرأة وبروزها ومشاركتها المجتمعية.  أما وقد حققت البلاد استقلالاً سياسياً مظفراً فتح أبواباً هامة أمام المرأة، كالتعليم والتثقيف والعمل، فإن عزيزة عبدالله تحاول تسليط الضوء على هذا العنصر «المجتمعي» الهام: المرأة، خلال مراحل تطور المجتمع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وترصد آثار هذه التحولات على مصائر بطلاتها في الرواية.  وتسعى هذه المقاربة النقدية إلى اقتحام العالم الروائي لعزيزة عبد الله في «أحلام... نبيلة»، لاسيما فيما يخص بناء الشخصية المحورية في الرواية (حليمة) بتطورها وتغيرها وتبدلها. ولكن هذا لا يعني إهمال العناصر السردية الأخرى ذات الحضور الدلالي الواضح، والتي سيشار إليها أثناء تتبع نمو وتطور الشخصية/ بطلة الرواية من خلال بنية السرد، وذلك لأن كل هذه العناصر تدور في فلك الشخصية وتكون بمثابة ظلال مكملة ومؤطرة لها. والروائي عادة يولي الشخصية الرئيسية أو المحورية التي يخلقها من خياله الأهمية القصوى، لأنها الأداة الفنية التي تعكس حمولاته الثقافية والفكرية.  وأما عن اهتمام الدارس/ الباحث بالشخصية فيأتي متفقاً مع ما يطرحه فيليب هامون من أن «الشخصية في الحكي هي تركيب جديد يقوم به القارئ أكثر مما هي تركيب يقوم به النص»(6).

وهذه الدراسة النقدية تسعى إلى الكشف عن محاولة الشخصية «البحث عن الذات» في علاقات مجتمعية غير طبيعية هي إفراز لتحولات اجتماعية وسياسية وثقافية خاطئة.  إن المؤلف يبدع الشخصية الروائية بقلمه وخياله لغاية فنية محددة يسعى إليها، ولهذا يعرفها رولان بارت بأنها «كائنات من ورق»(7). ومن هنا وجب عدم الخلط بينها وبين الشخصيات الحية، الحقيقية. «حقاً أن الشخصية الروائية تمثل الأشخاص فعلاً، ولكن ذلك يتم طبقاً لصياغات خاصة بالتخيل»(8). كما أن بعض القراءات الساذجة تعتقد أن الشخصية -لاسيما إذا كان راوي القص بضمير المتكلم- هي المؤلف نفسه دون التفريق «بين التجربة الشخصية والتجربة الفنية، خاصة إذا كانت كاتبتها امرأة، ويعتبرون الاثنين شيئاً واحداً»(9).

وفي الرواية موضع هذه الدراسة تخلق عزيزة عبد الله شخصية «حليمة» بطلة الرواية التي تنمو شخصيتها وتتبدل بتغير الأحداث وتطورها.  تظهر بطلة الرواية منذ البدء شخصية مضطربة في مظهرها ومسلكها، وحين تبدأ بسرد حكايتها، تأخذ المتلقي إلى الماضي الذي يشكل حجر الزاوية في حاضرها التعس. فـ»حليمة» تخضع لسلطة أبوية قاسية تتحكم في مصيرها، يتم تزويجها، ثم تطليقها، ثم تزويجها، بناءً على رغبة الأب الذي لا تقوى على مقاومتها، كما لا تقوى على مقاومة عنفه وقمعه لها حتى في محاولتها رؤية طفلها الذي حُرمت منه بعد طلاقها الأول، فإنها في هذه الحالة تتحول إلى «أسيرة يربطني بالحبل كلما اضطر للخروج ليضمن بقائي داخل الجدران»(10). وقد مورست ضد «حليمة» أساليب قمع وقهر وإذلال كثيرة، منذ أن كانت في الثانية عشرة من عمرها حين سُلبت طفولتها باسم الخطوبة لزوجها الأول، فهي لم تعد تلعب مع أترابها، وكان احتجاجها على ذلك يقابل بالعسف والقمع: «كانت أمي تجيب بأنني لم أعد طفلة فها أنا الآن مخطوبة، ولا بد من إعدادي حتى أصبح ربة بيت وزوجة صالحة»(11).

 وبعد الزواج تتحول إلى خادمة في بيت زوجها الذي هاجر في الشهور الأولى بعد زواجها ليتركها تواجه عذاباً وقهراً آخر. «بدأ عذابي الحقيقي مع أم زوجي التي لا ترحم، وأب عاجز لا يغادر الدار وطلباته لا تنتهي... وأخ زوج يجب عليَّ خدمته وإحضار كل ما يلزمه من أدوات الزراعة وعلف الماشية قبل أن يستيقظ... كان عملي اليومي يبدأ بإحضار الأعلاف وأدوات الزراعة وإيصالها إلى مكان العمل... وفي طريق العودة عليَّ بجلب الماء من البئر البعيدة... كل ذلك يجب عليَّ إتمامه قبل أن يبدأ عملي داخل المنزل مع شروق الشمس»(12). وإذا ما أوت إلى النوم فإنها لا تجد ما تريح عليه جسدها المتعب المنهك؛ «فراشي كان عبارة عن لحاف ممزق ووسادة قديمة.. كنت أتجمد من البرد في ليالي الشتاء القارس... لقد أمرتني عمتي بعد سفر زوجي بأن أعيد كل الأغطية إلى مكانها وسوف تردها عند عودته»(13). وتتكرر صور قهرها وإذلالها بعد فشل تجربة زواجها الأول، فقد سمعت بأن رجلاً آخر تقدم لها وأن والدها «قد وافق على طلبه وحدد موعد الزفاف... من يجرؤ على مراجعته أو ثنيه؟! حتى لو عارضت فمن يستجيب؟!»(14)، أسئلة لا تنتظر جواباً وإنما تعمق من إحساس الشخصية بالضعف والانكسار وقلة الحيلة.  وتمر الأيام بـ»حليمة» الضعيفة وتجد نفسها مسؤولة عن زوجها وولديها وأخيها ووالدتها المريضة نتيجة لصدمتها بوفاة ولديها، والتي تركها الأب ليستقر في صنعاء مع امرأة أخرى يرزق منها ولدين تؤول مسؤوليتهما إلى «حليمة» بعد وفاته وزواج أرملته من آخر. هنا تجد «حليمة» نفسها «تبحث عن إطار جديد للحياة تتخلص فيه من رواسب حكم الأب»(15)، فحاولت أن تثبت ذاتها، وتنهض من ركام القهر والضعف بمساعدة زوجها الطيب وتكون ربان السفينة. «لقد سعيت وعملت على أن أقود السفينة التي كانت من البداية غير صالحة للإقلاع منذ أن عمل أبي على خرقها»(16).

 وبتعبير فورستر تتكشف الشخصية هنا عن خاصية فنية ضرورية لتطورها، وهي «إثارة الدهشة»(17) في المتلقي بهذا التحول في بنيتها السيكولوجية، فـ»حليمة» تعي تماماً أن السفينة غير صالحة للإقلاع بما تحويه من شخوص كثر، مصالحهم متباينة، مشاربهم مختلفة، لكنها تصر على قيادتها في محاولة منها لإثبات الذات: «أنا في الحقيقة أحببت أن أثبت ذاتي، حتى اسمي غيرته من حليمة إلى أحلام»(18)، فتجتهد في توحيد صف أخوتها وولديها، وتنجح في زرع المحبة والألفة بينهم، عدا واحد من إخوتها (راجح) وكان قد قتل خطأ ابنها «أحمد» من زوجها السابق بسلاح الأب الذي باع أرضاً تزرع ليشتري سلاحاً. وحتى عندما انتقلت «حليمة» أو «أحلام» إلى الحياة في المدينة (صنعاء) في بيت أخويها القاصرين الذي أورثه لهما الأب في وصية خاصة، لم تستطع السيطرة على طموح أخيها «راجح» في الهجرة والسفر، ثم العودة، ثم الهجرة مرة أخرى وثانية وثالثة، تاركاً لها حمل زوجته المصرية وطفلتها «نبيلة».  تدرك «حليمة» أو «أحلام» أن السفينة بركابها تركة معطوبة من أب تصفه بأنه «كان السبب في كل ما حدث من مصائب في حياتي، لا بل في حياتنا كلنا...»(19). ومن أجل إثبات الذات وإثبات القدرة على الاستقلال الاقتصادي تفكر «أحلام» في العمل، ففي أثناء سفر زوجها إلى إحدى دول الخليج كانت تصنع بعض السراويل النسائية، وتطرزها وتكلف من يبيعها في السوق بدلاً منها(20)، وكانت تتلقى تحويلات مالية يسيرة من زوجها، فتقوم بإضافة دور علوي فوق منزل أخويها في صنعاء، راضية مختارة: «كنت راضية وغير مخونة الدهر... شعرت بأنني أقوم بعمل ذلك من أجل الكل وأننا جميعاً حال واحد»(21).

كان حق زوجها وأولادها في الاهتمام الخاص والرعاية الخاصة منها كزوجة وأم مهدر ومضيَّع في سبيل الحلم بإصلاح ما أفسده الآخرون، وتحقيق الحياة المستقرة التي عجز عن تحقيقها الأب، وتنصل الأخ عن مسؤولياته فاتجه إلى المهجر، وانزوت الأم تجتر أحزانها لفقد ولديها، حتى بعد شفائها من المرض، وتملُّص زوجة أبيها من مسؤولية ولديها وتفرغها لزوجها الجديد، واتجاه زوجها إلى المهجر، أرادت «أحلام» في غمرة حلمها بالحياة الكريمة السعيدة أن «تكون كل أولئك الذين لم يقوموا بواجبهم كما يجب»(22). وفي الوقت نفسه بدأت تتخذ القرار بمواصلة المسيرة ولكن ليس على حساب زوجها وأولادها، فاتفقت مع زوجها على شراء أرض لبناء بيت يضم أسرتها الصغيرة، ولكن العملية لم تتم، لأن للأرض أكثر من مالك وأكثر من وكيل(23)، فتعود لسفينتها التي لم تتخلّّ عنها أبداً، ويتجه زوجها خائباً محبطاً إلى المهجر مرة أخرى. وفيما هي تحاول أن تجتاز العواصف، وتخوض أمواج البحر بمجاديف محطمة -بحسب تعبيرها- إذا بزوجها يخرجها من حياته تدريجياً حتى تفاجأ به وقد عاد بعد شهرين متخذاً لنفسه زوجة غيرها يستقر معها في حارة لا يفصلها عن بيت «أحلام» سوى شارعين فقط.  وفي هذه الأثناء تعود زوجة أبيها السابقة -بعد وفاة زوجها واستيلاء زوجته الأولى وأولاده على المنزل- لتسكن مع ولديها في منزلهما الذي جمعت فيه «أحلام» إخوتها وأولادها وأمها وابنة أخيها «نبيلة» بعد ترك أمها لها وعودتها إلى مصر. لكن هذه العودة تكون مصحوبة بعواصف تطيح بألفة الأبناء والإخوة، بل تحاول أن تشرد «أحلام» بذاتها، فقد غدت زوجة أبيها «هي سيدة البيت، تغير وتبدل في تقسيم الغرف التي بنيتها حجراً حجراً بعرق جبيني وجبين زوجي وبما حرمت أولادي ونفسي منه»(24)، ليس هذا فحسب بل إنها طلبت من «أحلام» وأمها وأولادها و»نبيلة» الصغيرة مغادرة البيت والعودة إلى قريتهم «حراز» التي قدموا منها(25)، لأنه «يكفي أنهم يحتلون البيت كل هذه السنين دون مقابل»(26). فما كان من «أحلام» إلاّ أن أوهمت زوجة أبيها بأنه سيكون لها ما تريد(27)، وكذلك أخاها «عبد الرحمن» الذي نصحها قائلاً: «... ولكن لك زوج ومن واجبه إيجاد سكن لك ولأولاده... يجب أن تأخذي حقك ولا تدعيه يهنأ مع زوجته الجديدة وأنتم بحاجة إليه»(28). ويكون هذا الحدث: إقناعها بالخروج من المنزل، بما ينطوي عليه من مشهد حواري بينها وبين أخيها وزوجة أبيها، بمثابة مفصل جديد على مستوى تحول الشخصية واختياراتها، وعلى مستوى تطور الأحداث، فـ»أحلام» عندما أمعنت النظر في وجه أخيها «عبد الرحمن» حدثت نفسها متعجبة: «يا الله كم يشبه أبي! لم ألحظ ذلك الشبه من قبل»(29)، وفي موقع آخر «صار في نظري الآن أبي بكل صفاته ومساوئه»(30).

لقد أصبحت «أحلام» ترى في أخيها «عبد الرحمن» صورة مكررة عن أبيها في الشكل والطباع والتصرف، ورد ذلك في غير موقع من الرواية(31). ولعل «أحلام» هنا ترى الصورة بأعماقها، تراها من داخلها وليس الرؤية البصرية المعتادة، ترى القسوة ونكران الجميل والأنانية مرة أخرى، ترى ظلمها وحرمانها وضعفها وذلها، لهذا خلعت عن نفسها كل صفاتها السابقة ولبست ثوب الانتقام(32)، غدا الانتقام خيارها الوحيد في عالم يخلو من العدالة، ويحكمه منطق القوة ويفتقر إلى الأخلاق، على الرغم من أنه خيار لا ينسجم مع رؤيتها الجذرية لنفسها أو مع منظومة سلوكها السابق، ولكن العدوانية هنا تصبح «استراتيجية دفاعية تلجأ إليها الأنا حين تُهدِّد وحدة النفس بضياع المثال»(33). وسرعان ما عقدت العزم على أن تبدأ مسلسل الانتقام بأخيها «عبد الرحمن» وأمه: «لن تفلتي من انتقامي ولا هو سيفلت»(34). وعلى الفور اكتشفت أن التي تتحدث بداخلها شخصية أخرى ليست «حليمة» الضعيفة، ولا «أحلام» التي تضحي من أجل الآخرين وتعمل على لم الشمل، لقد انبجست بداخلها شخصية أخرى لم تعهدها في من قبل، إنها «أحلام الجديدة التي أخذت تقتحمني، وتطحن حليمة وأحلام بدون رحمة... وتزحف سريعاً وتحتل كل خلية داخلي...»(35).

 ومن هنا أصبحت تعيش بداخلها إنسانة أخرى تسميها «أحلام الجديدة». ولم تأتِ تسمية «حليمة» أو «أحلام» نفسها بـ»أحلام الجديدة» بدون مبرر فني، وإنما لأن الاسم يقيم مع الشخصية علاقة سببية ترابطية، لأن دلالة الاسم هي التي ستحدد دلالة الحدث الذي تقوم به الشخصية حاملة الاسم، حيث يرى بعض النقاد أن الشخصية قد تمنح أسماً يلخص صفاتها(36). وتلجأ الروائية إلى تسويغ التعبير الذي يلحق بالاسم، وذلك من خلال تقديم عبارات تبريرية على لسان الشخصية/ الراوية: «لم أعد حليمة المظلومة، تلك الطفلة التي تتلقى الصفعات من أم زوجها لأنها تجرأت وأخذت نصف نفر من الطحين وخبزته بدون علم عمتها... لم أعد حليمة التي تُسحب بشعر رأسها وتُحبس في مكان حالك الظلام.. والتي وضع أبوها القيد الحديدي في رجليها وكواها بالنار لاكتشافه محاولتها الوحيدة لرؤية طفلها.. لن أستمر حليمة الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة.. ولا حتى أحلام، لن أكونها بعد اليوم.. أحلام الغبية التي أرادت تغيير طبائع البشر وتصحيح أغلاطهم، الأحياء منهم والأموات.. أحلام التي خيل إليها أنها قادرة على الوصول إلى بر الأمان بقليل من الصبر والتضحية ولم شمل من فرقتهم الحاجة، وجمعهم الفقر، وغربهم الطمع.. لن أكون أحلام التي اكتشفت فجأة أن زوجها عاد وقد صارت له زوجة ثانية.. لم تتصور أحلام التي لن أكونها بعد اليوم أن أخويها سوف يخبرانها مع أمهما أن عليها أن تبحث عن سكن آخر...»(37). إن هذه العبارات تلقي الأضواء على الملابسات التي أدت إلى هذا التغيير، ليس في الاسم فحسب، وإنما في الموقف من العالم المباشر الذي يحيط بالشخصية، إنه تغيير في جوهر الشخصية. وقد سردت الروائية على لسان بطلتها هذه التفسيرات والتبريرات سعياً منها إلى «إظهار ذلك التغيير بمظهر التحول الطبيعي الذي تفرضه مقتضيات البنية الروائية»(38).

وعند هذا المستوى من التغير الفني للشخصية تطغى «أحلام الجديدة» على «حليمة» و»أحلام»: «شعرت بشيء من الزهو حينما بحثت بداخلي عن أحلام ولم أجدها... لقد فرحت لأنها هي الأخرى قد رحلت واختفت أو أنها ماتت كما ماتت حليمة»(39). وتسوق «أحلام الجديدة» نفسها إلى «طريق لا علم لي بنهايتها»(40)، كما تحدث نفسها، وهو طريق الاستقواء ببعض المتنفذين لتنفيذ مخططها الانتقامي، يقودها طريقها إلى «أمة الملك» زوجة «شخصية مهمة تسهر ولا تنام حتى وإن تأكدت أن الكل نيام»(41). وأمام هذه الزوجة -المحظية المفضلة لدى زوجها المسؤول الذي يتمتع بسلطة تؤدي بخصمه إلى حبل المشنقة(42)- ذرفت «أحلام الجديدة» الدموع، وبسطت شكاوى كاذبة وتهماً ملفقة ضد زوجة أبيها التي زورت وصية ملكية البيت والأرض لصالح أولادها، وضد أخيها «عبد الرحمن» الذي «من صغره يحب الإجرام»(43)، ويسعى هو وأمه إلى طردها وأمها العاجزة وأولادها من بيتها، فتقوم الزوجة المحظية على الفور بوعد «أحلام الجديدة» بمساعدتها والانتقام لها من ظالميها ومستغليها.  وبهذا التحالف الشيطاني تسلم «حليمة» أو «أحلام» قيادها لـ»أحلام» الجديدة التي تضع نفسها بين براثن «أمة الملك» وتصبح إحدى التابعات لها، المادحة لها، المطرية على جمالها وأخلاقها العالية، ودلالها وأناقتها وذكائها، وحسن تصرفها، بينما تمارس «أمة الملك» هوايتها في أذى من ترشحه «أحلام الجديدة» بدءاً بأخيها «عبد الرحمن» الذي أخذ من قبل بعض الرجال بحجة التزوير والمخالفة في البناء، وهناك يضرب ويهان ويهدد، ويغيب عن المنزل لأوقات طويلة، ولأكثر من مرة، ثم يعاد مما يصيبه بحالة ذهول وشرود وانكفاء على الذات في ركن بغرفته لا يريد محادثة أحد أو الخروج من البيت حتى يفقد عقله ويغدو غريباً عن أهله وهم غرباء عنه. وتستمر العلاقة التدميرية تجمع بين المرأتين، وتطال هذه المرة طليق «أحلام» أو «أحلام الجديدة»، حيث تلفق له وزوجته تهماً مخلة بالشرف تعكس نفسها على سمعة أولادها وأحوالهم النفسية، وبالتالي تتعثر دراستهم ويتم فصلهم من مدارسهم، بينما يهيم أخوها الثاني على وجهه محاولاً السفر والهجرة عن طريق المهربين. أما والدتها فتحيطها بهالة من الشك والريبة. وقد نجحت «أحلام الجديدة» في إزاحة زوجة أبيها من المنزل وذلك بتزويجها من «المقوت» الذي تتعامل معه، وكم كان ندمها كبيراً أن أخيها «راجح» وأباها بعيدان عن قبضتها وانتقامها.  لكن «أحلام الجديدة» أثناء مسلسلها الانتقامي كانت تعاني بأعماقها صراعاً وازدواجية وانقساماً على الذات، أرقها كثيراً، وجعلها ذاتاً مضيّعة، لا تدري من هي على وجه التحديد، فتارة «أحلام الجديدة ماتت، وقامت بدلاً منها حليمة من قبرها... جرتني بهدوء نحو رأس الشارع، وضعتني في سيارة أجرة وعادت إلى تابوتها.. وقبل أن تهوي إلى قبرها في قاع ذاتي قالت: عودي إلى القرية، تعالي نهرب من هنا ومن أحلام الجديدة...»(44)، وتارة أخرى «أحلام لم تُسحق بعد، إنها مازالت تقاوم وتشدني باسم القيم والأخلاق»(45)، لاسيما في الأوقات التي تكذب فيها «أحلام الجديدة»، أو تنافق، أو تلفق التهم، وأما في الأوقات التي تنتصر فيها على ظالميها وتتشفى بذلهم وضعفهم أمامها، تقرر أن «أحلام الجديدة هي وحدها التي تستحق البقاء»(46).

 واضح أن الشخصية تعيش حالة من الانفصال عن الذات، حالة من الانشطار والتشظي في تكوينها النفسي والفكري: «عقولي الثلاثة توقفت... نعم عقولي الثلاثة.. لكنها كلها لا تعمل إلا على ضياعي»(47)، الأمر الذي عكس نفسه على علاقتها بالشخصيات التي تدور في فلكها، بحيث أخذت علاقتها بهم تتوتر وتنهار، وتتحول إلى علاقات انتقامية، أدخلتها في دائرة الاغتراب عن نفسها، وعن أسرتها: «يا رب! هل يمكن أن أستعيد تلك الأيام التي كنت أحسبها مريرة وأعمل على الخروج منها؟ ليتها تعود! هل بإمكاني استعادة ثقة ولدي الذي صار يحتقرني بل ويكرهني؟ لا فائدة! لقد كُتب عليّ فقدان من أحب...»(48). إن هذا الحديث مع النفس «يعكس حجم الاغتراب الذي تعيشه الذات وهي تعاني فجيعة فقدانها التواصل مع الآخر وقد صار العالم خواءً مما هو إنساني»(49). أما ازدواجها النفسي وتناقضها فإنه يطفو على سطح شخصيتها عندما كانت تتنازعها عوامل الخير والشر تجاه ما يتعرض له أخوها «عبد الرحمن» على يد قريب «أمة الملك» ورجاله. تقول أحلام: «يجب أن أذهب إليها الآن لتبعد قريبها عن عبد الرحمن... وإذا بصوت أحلام الجديدة يجلجل بداخلي: مكانك لا تتحركي...»(50). وفي موقع آخر: «أحلام تريد العودة وإخبار الكل بأنني أنا السبب في كل ما يحدث.. أحلام الجديدة مصممة على أن كل ما قمت به ليس فيه ما يستحق العقاب... لأنه ما كان إلا دفاعاً عن حقي...»(51).  إن بطلة الرواية هنا «تتمزق بين عالمها المثالي وعالمها الخارجي الموبوء المتدهور»(52)، لقد اجتهدت في أن تسوق السفينة إلى بر الأمان، ولكنها فجأة تجد نفسها مهددة بالخروج من السفينة، هي وأولادها إلى قارعة الطريق، ورحلة إبحارها لم تكن بالأمر الهين، لقد لقيت من المصائب والويلات ما لم تقوَ على فهمه واستيعابه، عرفت الجوع، والحاجة، والتقتير على الذات، وإيثار الآخرين على حساب رغباتها، وعرفت الظلم والذل والقهر وعملت وكافحت، كل ذلك في ظل ظروف صعبة متوالية متواترة، لم تعد «حليمة» أو «أحلام» في ذلك الوقت تدري «لِمَ يحدث كل ذلك؟ وكيف حدث؟ لقد عجزت عن حل ألغاز هذه الحياة وتداخلاتها وفوضويتها، وكأن كل ما يحدث أمر قدري عبثي محير»(53). ولعل إحساسها بالعجز والقهر وقلة الحيلة هو الذي خلق «أحلام الجديدة»، وهو الذي دلف بها إلى بلاط «أمة الملك»، المرأة التي تستغل موقع زوجها السياسي، وتستطيع أن تحرك وزارتين في وقت واحد بواسطة أحد أقاربها لتنفيذ ما تريد(54)، ذلك القريب «الذي يستولي على ممتلكات العباد وأرزاقهم ورقابهم... يحبس ويفرج عمن أراد.. ويلفق التهم لمن حاول الوقوف بطريقه.. يستطيع تبرئة القاتل، وإن لم يتمكن من تبرئته أخفاه عن العدالة أو هربه خارج الحدود والسدود»(55).

 تمارس «أمة الملك» وزبانيتها صوراً شتى من الفساد، كل ذلك وزوجها المسؤول الكبير منشغل عنهم بما هو أهم: «إنه شغوف بالأراضي مهما كان سعرها وقد يستولي عليها بدون ثمن»(56). وفي محادثة هاتفية بين «أمة الملك» وقريبها سمعتها «أحلام» تتحدث غاضبة: «قلت لك لا تتدخل في أرض الحديدة، لقد أفهمت زوجي أنها قد بيعت وعليه أن يكلف من يبحث له عن غيرها.. هل فهمت؟! ركز على تعز واترك الحديدة»(57). وعندما ترى بعينيها بذخ الولائم التي تصحب فيها «أمة الملك» تجد الوليمة الواحدة تكاد «تشبع كل سكان حارتنا والحارة المجاورة»(58)، على حد تعبيرها، أو عندما ترى ما ترتديه النساء من ثياب وما يزين أعناقهن وأيديهن من مجوهرات براقة، أو عندما تسمع أحاديثهن عن الغداء والمقيل والمجوهرات الثمينة، تشعر بالاغتراب عن هذا المجتمع، وبانفصال حاد عن ذاتها: «أية مقادير ساقتني وأوقعتني بين براثن هذه الشريحة من المجتمع؟!»(59)، هكذا تبدأ «أحلام الجديدة» تعيش حالة من عدم التوافق الاجتماعي مع هذه البيئة التي لا تتجانس معها نفسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، وهنا «تتضافر العوامل الذاتية والدوافع الاقتصادية والاجتماعية مع بعضها لتشكل في نهاية الأمر اغتراباً عن الذات»(60)، ويوغل هذا المجتمع في تغريب «أحلام الجديدة» عندما تصر «أمة الملك» على إلباسها «الشرشف» بدلاً من «الستارة» حجاب «أحلام» التقليدي، لتكون في هيئة تناسب مقامها كتابعة لـ»أمة الملك» تصطحبها معها إلى بيوت المسؤولين المختلفة، ولجهلها بطريقة لبسه فقد كانت أضحوكة لـ»أمة الملك» وكل النسوة اللاتي نادتهن «أمة الملك» من أرجاء البيت ليشهدن الموقف المضحك والذي جارتهن فيه «أحلام الجديدة» نفسها، رياءً ونفاقاً، أما في أعماقها فقد شعرت بالضآلة والدونية أمام أولئك النسوة: «شعرت أمامهن وكأني مهرجة غبية وتافهة لا أستحق إلا أن أبقى حليمة المسحوقة»(61)، ولعل السبب الكامن وراء هذا الشعور يتمثل في كونها لم تستطع الدفاع عن معيار أساسي من معاييرها الاجتماعية التي درجت عليها: لبس «الستارة» حجابها التقليدي الذي يحقق لها الإحساس بهويتها الخاصة، وبالانتماء إلى أرضيتها الاجتماعية البسيطة، الفقيرة التي تسعى «أحلام الجديدة» إلى تدميرها أو إضاعتها على أقل تقدير. وينطلق صوت من داخلها: «لماذا أضع نفسي في هذا الموقف الرخيص؟!... لماذا رضيت لنفسي أن أصبح مسخرة؟!... وباستطاعتي أن أبدأ من جديد وأكافح...؟!(62).

وهنا يبدو للمتلقي أن هذه الشخصية الروائية يمكن أن ينطبق عليها ما ذكره «باختين» من أنه «ليس المهم ما تمثله الشخصية في العالم، ولكن ما يمثله العالم بالنسبة للشخصية، وما تمثله الشخصية بالنسبة لنفسها»(63)، إنها تشعر بنفسها مسخاً أمام عالم لا يعني بالنسبة لها إلا «التحطيم والدمار»(64)، ولكنها مع ذلك لا تقوى على مغادرة هذا الواقع، إنها تخشى سطوة «أمة الملك»: «قبيل المغرب أسرعت بالذهاب إلى «أمة الملك» لأنني وعدتها بذلك، والحقيقة أني صرت أخاف من عقابها لو أنا أخلفت وعدي معها»(65)، لقد خيل للبطلة/ الراوية أنها ستجد نفسها من خلال قوة وسطوة «أمة الملك» التي وعدتها بمناصرتها على ظالميها ومستغليها، ويبدو أن هذا قد تحقق «لأحلام الجديدة»، فهي قد استطاعت «تأديب» أخيها «عبد الرحمن» بواسطة ذلك «القريب» المتنفّذ ولكن بجرعة قاتلة ما كانت تتوقعها، ورأت بعينها ضعف واستلام وتذلل زوجة أبيها ورجاءها لها بأن تعمل شيئاً لإنقاذ ابنها، ورأت منها سلوكاً حسناً معها ومع أمها العاجزة وولديها و»نبيلة» الصغيرة، فكانت تقول في نفسها متشفية: «أهذه هي المرأة نفسها التي عرفت كيف تختار الفرصة المناسبة: فرصة عودة زوجي وخبر زواجه بأخرى لتبلغني قرار طردي من البيت»(66)، ورأت وسمعت الفضيحة التي لفقها قريب «أمة الملك» لزوجها بتقرير كاذب يؤكد أنه يستخدم بيته بؤرة للفساد الأخلاقي(67).  إن القوة السحرية التي استمدتها «أحلام الجديدة» من معاقل الشر والأذى، معتقدة بذلك أنها نهضت من ركام ضعفها وسحقها، لم تكن إلا سحراً انقلب على الساحر، سحر دمر «حليمة»، و»أحلام»، وأولادها إلى درجة الاشتباك بالأيدي والسكاكين، وشيئاً فشيئاً انفرط عقد الشمل، الذي عملت «أحلام» بصفائها وإخلاصها وصدقها مع نفسها ومع الآخرين، على لمه والوصول به إلى بر الأمان حتى وإن كانت السفينة معطوبة، ولعل «أحلام الجديدة» أرادت أن تنتقم أولاً وقبل كل شيء من والدها، فوجدت أخاها صورة عنه، ثم حطمت لا شعورياً السفينة التي وضعها فيها والدها وتضافرت معه الظروف الاقتصادية الحرجة التي كانت «أحلام» تشقى فيها لتوفر لأسرتها بعض «الكدم» والطماطم و»الحلبة» وفي أحسن الأحوال وأكثرها ترفاً دجاجة واحدة لكل أفراد العائلة.  إن هذه الشخصية الروائية قد طرأت عليها تحولات جعلتها شخصية مدورة أو شخصية معقدة بكل الدلالات التي توحي بها لفظ العقدة، فهي تحب وتكره، تصعد وتهبط، تفعل الخير كما تفعل الشر، تؤثر في سواها تأثيراً واسعاً لا تستقر على حال، متغيرة، متبدلة الأطوار، الشخصية المدورة -بتعبير مرتاض- هي المعادل المفهوماتي للشخصية النامية(68).

ويأتي نمو هذه الشخصية من قدرتها على «كشف حقيقة ذاتها، إنها تحيل طبيعتها الحقيقية إلى دراما...»(69). لقد عاشت البطلة طوال الرواية تعاني صراعاً بين شخصياتها الثلاث، التي لم تجد نفسها في واحدة منهن على الإطلاق، فـ»أحلام» مثلاً بطيبتها، وعطفها، وحبها لأسرتها، كانت تبرز إلى حيز النص كلما اقترب شر وأذى «أحلام الجديدة» من أخيها «عبد الرحمن» الذي أوذي بصورة ما كانت لتتمناها، ولكن سبق السيف العذل، مما جعل بطلة الرواية في مرحلة التغير والتبدل تكون عبارة عن شخصيات في شخصية مركبة، أو إذا شئنا شخصية مشظاة إلى عدة شخصيات، حتى بعد اعتقادها بأن «أحلام الجديدة هي وحدها التي تستحق البقاء» إلا أن هذا الخيار كان نابعاً من خوفها سطوة «أمة الملك»، واضطرارها للاستمرار في تحالفها الشيطاني مع امرأة تكرهها، تحتقرها، ترفضها في أعماقها الداخلية: «شعرت برغبة في البوح بكل ما يدور في داخلي وإخبارها بحقيقة ما أكنه نحوها، ولكن قبل أن أفتح فمي ظهرت أحلام الجديدة، ولوت لساني، وأنطقته بعكس ما أشعر نحو هذه المخلوقة التي كلما قابلتها ازددت رعباً وخوفاً، إنها لا ترحم»(70). هكذا تبقى البطلة «ذاتاً تصرخ طوال الرواية محاولة إثبات ذاتها ووجودها لكن محاولاتها باءت بالفشل»(71).

                            

يتنازع القص في هذه الرواية راويان: خارجي وداخلي، يمكن الفصل بينهما بسهولة ويسر، فالراوي الأول مؤلفة الرواية، والراوي الثاني الشخصية البطلة؛ فكاتبة الرواية تبدأ القص على مدى الثلاثة الفصول الأولى أو إن شئت الثلاث لوحات الأولى والتي تسمى لدى البعض «الافتتاحية» و»وظيفتها في الرواية الواقعية هي إدخال القارئ إلى عالم الرواية التخييلي بكل أبعاده»(72). وفي هذا القص/ الافتتاحية تسرد كاتبة الرواية الظروف التي تعرفت فيها إلى الشخصية أحلام، وكيف ساعدتها على إدخال طفلتها إلى المستشفى، ثم زيارتها لها، ثم استدعائها لها إلى منزلها لمعرفة حكايتها مع الطفلة، بل وحكاية البطلة نفسها التي بدت للكاتبة مثقلة بالهموم والأحزان وذلك لإعداد القارئ وتهيئته لتلقي النص/ الحكاية.  وبعد ذلك تسلم الكاتبة زمام القص لبطلتها الراوية الثانية، الداخلية، بوصفها مشاركة في أحداث الرواية كشخصية مركزية أو محورية ؛ فهي «راوية» من صنع المؤلفة، إذ إن الروائي «عندما يقص لا يتكلم بصوته ولكنه يفوض راوياً تخيلياً يأخذ على عاتقة عملية القص»(73). وتسرد الراوية/ البطلة أحداث الرواية بضمير المتكلم الذي «يحيل على الذات، فهو ضمير يسرد ذاته ومنطلقة من الداخل نحو الداخل، ويستطيع التوغل إلى أعماق النفس البشرية؛ فيعريها بصدق، ويكشف عن نواياها بحق»(74)، لاسيما وأنه في هذه الراوية «الذات هي موضوع السرد»(75). والراوية باستخدامها ضمير المتكلم كشاهدة عيان مشاركة في الأحداث «استطاعات أن تكسب إيماننا بواقعية ما تروي وذلك من خلال ذلك العرض الواقعي المثبت في عالم الواقع بتفاصيله الزمانية والمكانية والحدثية بحذق ومهارة»(76).

وتنطلق الراوية من رؤية مصاحبة أو كما يطلق عليها جون بوين «الرؤية مع»، وفيها تتساوى معرفة الراوي بمعرفة الشخصية، أي أن «كل معلومة سردية أو أي سر من أسرار الشريط السردي يغدو متصاحباً مع الأنا/ السارد الذي يستحيل إلى مجرد شخصية من شخصيات هذا الشريط السردي»(77). وإذا ما تحدثنا عن اشتغال الزمن في هذه الرواية فإننا نجده زمناً متداخلاً وهو ما يسمى بـ»النسق الزمني المتقطع وفيه تتقطع الأزمنة في سيرها من الحاضر إلى الماضي»(78)؛ حيث نجد الكاتبة تقطع سير السرد على الراوية البطلة في بداية معظم اللوحات أو الفصول السردية لترصد حركات الراوية أو انفعالاتها قبل استئنافها السرد، على أن توقيف السرد الماضي والرجوع إلى الحاضر قصير مقارنةً بالماضي الذي يغطي أحداث الرواية مدة واتساعاً، والرجوع إلى الماضي أو «الفلاش باك» هو سرد أحداث الماضي القريب أو البعيد من الذاكرة، إنه (أي التذكر) «فعل قصدي مستمر لا تتوقف حركته الحرة بين الأزمنة المحفورة في الذاكرة»(79). وفي روايتنا موضوع البحث تستدعي الراوية ماضيها في ارتداد خارجي، أي تسترجع أحداثاً وقعت قبل بداية الرواية، أحداثاً وقعت في زمن الحكاية وليس في زمن القص، وهو الحاضر الذي يعد امتداداً لماضي الشخصية، أن الزمنين (الماضي والحاضر) في هذه الرواية يلعبان دورهما الأساسي في تشظي الأنا الساردة وفقدانها للهوية وتوزعها في أكثر من «أنا».

                            

أما عن مفهوم وجهة النظر لدى النقاد، فمنهم من رآه «الطريقة التي تروي بها القصة»(80)، ومنهم من رآه «فلسفة الروائي أو موقفه الاجتماعي أو السياسي... أو العلاقة بين المؤلف والراوي وموضوع الرواية»(81)، ومنهم من رآه منظومة القيم العامة لرواية العالم ذهنياً والتي تشكل البنية التحتية الشاملة للعمل الأدبي(82). وجميعها تخلص إلى أن وجهة النظر هي القيم العامة كما يراها المؤلف سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً وعقائدياً، والتي يقدمها من خلال راوٍ ينوب عنه في عملية القص، بحيث يغدو هذا الراوي «قناعاً من الأقنعة العديدة التي يتستر وراءها الراوي لتقديم عمله»(83). وقد طرحت عزيزة عبد الله مجموعة من الرؤى على لسان الراوية وذلك بإدخالها -من خلال ضياعها وتشرذمها- إلى عالم «أمة الملك»، في محاولة منها (أي الكاتبة) لتعرية تلك الشريحة المحسوبة على النظام السياسي في مرحلة من مراحل تطوره وتشكله، وهي شريحة -كما تراها- فاسدة، طفيلية، تنمو على هياكل الفقراء والمستضعفين، فهم لا يرون في مواقعهم إلا فرصاً للنهب والسلب، ولا يرون أرض بلادهم إلا سلعة تباع وتشترى، ويستغلون المظلومين والمقهورين الذين يستنجدون بهم فيحولونهم إلى أتباع صاغرين مطيعين، وربما ألحقوهم بدورهم خدماً أذلاء، وما وجود ذلك الجمع من النساء في منزل «أمة الملك» وضرائرها واللاتي عرجت الراوية أثناء السرد على قصصهن وكشفتها للمتلقي، إلا دليل على هذا الاستغلال والتسخير لتلك النسوة، فجميعهن لديهن قصص بل مآسٍ مع الرجل، أباً أو أخاً أو عماً أو زوجاً أو حبيباً أو متنفذاً، والراوية تدين الاثنين معاً: الرجل الذي مارس سلطته الذكورية القاسية ضد هؤلاء النسوة مما شردهن أو قاد بعضهن إلى السجن، ثم المسؤول الكبير زوج «أمة الملك» والذي تدخل هو والمتنفذون في وزارته لحل مشاكل هذه النسوة مع رجالهن، ولكنه سخرهن جميعاً خدماً وحاشية ذليلة مقهورة مستعبدة لدى نسائه الثلاث بمن فيهن «أمة الملك». إن اطلاع الراوية على مآسي هؤلاء الفتيات جعلها تشعر أن «في أعماق كل امرأة مسحوقة أحلام وحليمة»(84)، لذا تحاول «أحلام الجديدة» رفض الظلم والتمرد عليه، الظلم في نظرها رديف لصورة الرجل؛ فعندما رأت فتاة في المستشفى تسير خلف رجل وقد نكست رأسها إلى حد ملاصقة وجهها لصدرها، ولبست ثياباً رثة، وحذاءً واسعاً، وطرحة أكلت الشمس ألوانها ومزق الدهر خيوطها، رأت فيها «حليمة» بنفس خطواتها الخائفة واللفتات المذعورة، رأت «حليمة» تغادر جسدها وتلبس جسد الفتاة المسكينة، فهتفت أعماقها زاجرة الفتاة: «لماذا تتبعين هذا الرجل؟ ألا ترين أنه نفس الرجل الذي طلقك وحرمك من ولدك بدون ذنب أو جرم ارتكبته؟!»(85).

تعتقد الروائية أن قهر المرأة واستلابها في المجتمع يبدأ من السلطة الأبوية في مجتمعها الأول (الأسرة)، وهي نواة المجتمع الكبير الذكوري، فأبوها يفخر بأنه ينجب أولاداً (خمسة ذكور أخوتها) وأمها تدعو عليها وتلعن الموت الذي أخذ أولادها الذكور (اثنين من إخوة «حليمة»)، وتمارس ضدها أفعالاً قمعية من قبل الأب مثلت النواة الحقيقية لتمردها ورفضها الظلم، كرهت «أحلام» الظلم والقسوة، وتمنت لو أن أباها كان حياً لسلكته في عداد انتقاماتها.   لكنني أجد أن هذا التمرد قد أخذ وجهة سلبية، إنه غير موجه في الاتجاه السليم، فهل تريد الكاتبة أن تقول إن التقصير في تعليم القطاع النسائي يجعل المرأة -وإن أدركت قضاياها وهمومها- توجه رفضها واحتجاجها ومطالبها وجهة سالبة توقعها في بؤرة الضياع والشتات الذهني والنفسي والاجتماعي؟!  إن الروائية تتبنى من ضمن الرؤى التي تطرحها في خطابها الروائي هذا إدانة الواقع بمجمله، بكل تشكلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل على تغريب الفرد، وتقضي على أحلامه وطموحاته كما قضي على «الأحلام النبيلة» التي كانت تشع في نفس «أحلام» وليس «حليمة»، لأن الأخيرة لا تقوى على امتلاك الحلم والقيد الحديدي في رجليها وقد حبست في غرفة حالكة الظلام، إنها وحدها «أحلام» التي تمتلك حق الحلم، «أحلام» التي جاءت على حساب «حليمة» والتي كانت تحلم بقيادة السفينة، ولكن السفينة المخروقة والبحر المتلاطم قذفا بها إلى اليابسة الصلبة القاسية، فأرادت أن تكون «أحلاماً جديدة»، أضاعت السبيل والهدف، ومن أتون غربتها عن واقعها، ومن أمشاج التمزق النفسي، والضياع الروحي، تقف أمام جبل «نقم» وتوجه إليه أسئلة متفجرة، جريئة، وحائرة: «وأنت أيها الشامخ أمامي! أنت يا جبل نقم! لماذا لا ترد عليَّ؟ من عمق أعماقي أناديك.. أنت الذي بإمكانك أن تنفض الغيم الذي حجب ضوء القمر، وترك صنعاء في ظلامها الدامس، لماذا تغطي عينيك، وتستحلي السبات، وتخبئ رأسك تحت السحب التي لا تمطر؟ أين انتفاضاتك التي كانت البداية؟؟ لِمَ هذا الصمت الرهيب؟ هل أعيدت القيود إلى قدميك؟ أيها الجبار المنتصب! أين انتفاضاتك التي كانت؟ كيف ترضى بهذه القيود الجديدة تطوق قدميك تحت قناع جديد وحُلَة جديدة.. اسمها أمة الملك؟ جبل نقم! عندي توق إليك.. توق إلى الصعود إلى القلعة الصامدة في أعلى قمتك، علها تدلني على طريق لا أحتاج فيه لأحلام الجديدة ولا إلى المقوت، لولاه ما كنت عرفت طريق بيت ذلك المسؤول»(86). 

 لقد اجتزأت هذا المقطع الطويل لما يشتمل عليه من دلالة فنية وفكرية، فجبل نقم، وصنعاء، و»أمة الملك»، تحولت جميعها في يد الكاتبة إلى رموز تاريخية وحضارية وسياسية، حيث يشهد هذا الجبل على الشموخ الحضاري والإنساني الذي كان لهذه الأرض الطيبة، وصنعاء بمفردها في النص ليست هي مدينة صنعاء فقط، إنها كل اليمن، بمدنه وقراه وسهوله وجباله. وهذه الأسئلة التي خاطبت بها الراوية تاريخها، ومجتمعها، وماضيها، وحاضرها، أشبه بمحاكمة، وهي فنياً لا تحتاج إلى إجابة، ودلالياً «تتوافر على حوار ضمني يعمق نقطة الكشف النفسي التي يكرسها الراوي في الشخصية»(87). إن البطلة هنا قذفت بما يختلج في دواخلها من أفكار ومشاعر وحيرة واستلاب واحتجاج، وكشفت عن خبايا روحها بصدق ودون مواربة، إنها مناجاة «بمثابة استغوار في أعماق وعي الذات، كشفت عن جوهر البطلة وحقيقتها»(88). إنها ذات مضيَّعة على يد «أمة الملك» التي تستحيل في النص السابق إلى رمز لقوى الفساد والعابثين والمستهترين والمعيقين لتطور البلد ونهوضه.   إن للمونولوج أو المناجاة لغة خاصة بالوضع الذهني والنفسي للشخصية، باعتباره رحلة في تلافيف الدماغ الداخلية، وهي تعمل بتعبير أ. أمندلاو(89)، وبالنظر إلى لغة النص المستقطع من الرواية، نجدها لغة شديدة التوتر والانفعال، مما أفرز تراكيب ومفردات متكررة، مثال التكرار في الضمير «أنت» وأداتي الاستفهام «لماذا» و»أين» بل وأساليب الاستفهام بأدوات أخرى، مثل «لِمَ»؟ «هل»؟ «كيف»؟ وبصورة عامة فقد انتصب أمامنا جبل نقم شخصاً مجسداً تُوجّه إليه أسئلة حرى في تصوير شعري أسبغ على الجبل مشاعر وأحاسيس وتكوينات العنصر البشري. ولا يفوتني هنا الإشارة إلى علامات الترقيم، حيث نلاحظ أن المؤلفة تضع أمام بعض الأسئلة علامتي استفهام بدلا من علامة واحدة: «أنت يا جبل نقم لماذا لا ترد علي؟؟»، وفي موقع آخر: «أين انتفاضاتك التي كانت البداية؟؟»؛ وفي ذلك إيحاء مكثف بأهمية السؤال وديمومته وبقائه معلقاً دون جواب أمام ديمومة الحال؛ فالسؤال عن عدم الرد سيظل قائماً، لأنه لا جواب لدى المخاطب، المستمع افتراضاً، وسيبقى السؤال الآخر معلقاً ما دامت البدايات الثائرة بقيت مجرد بدايات بَعُد العهدُ بينها وبين الجبل الشامخ، وواقع الحال إنها «بدايات» وكفى، يدل على ذلك تكرار صيغة السؤال مرة أخرى.  إن لغة الرواية عموماً تكرس ضعف الشخصية، وأحلامها، ثم ضياعها، وبالنظر إلى المونولوجات الداخلية فإنها جميعها تكشف الصراع الدائر بداخل الشخصية المزدوجة، المركبة، الذات المتعبة التي تورطت في أفعال لا تنسجم مع هويتها الأخلاقية والإنسانية، لقد فعلت ما فعله أولئك الفاسدون من جرائم وأخطاء وتجاوزات ولم تنتقم إلا من نفسها و»ما خسرت إلا نفسي»(90). وفي هذا التعبير دلالة واضحة عما ظلت تعانيه «أحلام» من اغتراب عن الذات مبعثه «انعدام المغزى الذاتي والجوهري للعمل الذي يؤديه الإنسان»(91).

خاتمــــــة:

أن رواية «أحلام... نبيلة» كما رأينا تجسيد للواقع الإنساني المهزوم، المتدهور، هذا الواقع الذي يفتقد إلى المنطق والتنظيم والمعنى، بسبب عبثية الأحداث ومأساويتها، وما «حليمة» أو «أحلام» أو «أحلام الجديدة» إلا ضحية لهذا الواقع المختل بسبب عبث قوى الشر والفساد. وتستحيل «أحلام» هنا إلى رمز يختزل بنات جنسها المفعمات بأحلام نبيلة شتى، ولكن الجهل والقمع والأنانية وقصور الوعي، وغياب القانون، والقوى المتنفذة، والوضع الاجتماعي الأسري بتعقيداته وتشابكه، كلها تقف حائلاً دون تحقيق هذه الأحلام. لقد اجتهدت الروائية في طرح الكثير من هموم المرأة التي تعانيها في مجتمع يحاول الانفلات من رواسب تربية «رجعية»، والخروج من نفق التخلف الفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، رغم ما يصاحب هذه المحاولات من أخطاء وعراقيل وصعوبات تقف دون نهوض المجتمع بأسرة والمرأة على وجه التحديد.  ولا أحد يستطيع أن ينكر الهنات الفنية التي تكتنف المحاولات الإبداعية الأولى، وأبرزها الاضطراب السردي وتضخمه، وقيام المؤلفة في النهاية بتخصيص لوحة أو فصل تبرز فيه دوافعها لكتابة النص الروائي وتحفظها على كثير مما يجب قوله؛ وهو جزء لم يكن العمل بحاجة إليه، مما جعله جزءاً غريباً ملصقاً بجسد الرواية التي انتهت بنهاية مفتوحة منطقية تكرس ضياع الراوية/ البطلة في واقع مضطرب يفرز -حتماً- شريحة اجتماعية فاسدة وانتهازية في مرحلة هامة من مراحل تشكله السياسي والاجتماعي

 

الهـــوامـــــــش:

  1- عبد العزيز المقالح: دراسات في الرواية والقصة القصيرة في اليمن، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1999، ص377. 2-          إبراهيم الفيومي: قراءات نقدية في الرواية العربية، مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية للنشر والتوزيع، اربد- الأردن، ط1، 2001، ص19.
 3-
   طه وادي: صورة المرأة في الرواية العربية، دار المعارف، مصر، د/ت. 
 4-
     سوسن ناجي رضوان: الوعي بالكتابة في الخطاب النسائي العربي المعاصر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2004، ص61.
 5-
           المرجع السابق، ص62.
  6-
            حميد لحمداني: بنية النص السردي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط3، 2000، ص50.
 7-
          حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1990، ص213.
  8-
          المرجع السابق، ص213. 
 9-
          سوسن ناجي رضوان، ص129. 
 10-
عزيزة عبد الله: «أحلام.. نبيلة»، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 1997، ص35.
  11-
  الرواية، ص28. 
 12-
           الرواية، ص 29.  13-          الرواية، ص29. 14-       الرواية، ص40. 15-            عز الدين إسماعيل: التفسير النفسي للأدب، دار العودة، بيروت، ط4، 1981، ص269. 16-    الرواية، ص61.  17-       فورستر: أركان الرواية، ت: موسى عاصي، جروس بروس، لبنان، ط1، 1994، ص61.  18-    الرواية، ص61. 19-            الرواية، ص48. 20-       الرواية، ص43.  21-           الرواية، ص64. 22-            الرواية، ص61. 23-            الرواية، ص66. 24-            الرواية، ص69. 25-            الرواية، ص72. 26-            الرواية، ص71. 27-            الرواية، ص73.  28-           الرواية، ص79.  29-           الرواية، ص78. 30-            الرواية، ص79. 31-            الرواية، ص95 وص115.  32-            الرواية، ص79. 33-            عز الدين إسماعيل، مرجع سابق، ص260. 34-        الرواية، ص84.  35-           الرواية، ص84.  36-           عبد المحسن طه بدر: نجيب محفوظ: الرؤية والأداة، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، د.ط، د.ت، ص316. 37-       الرواية، ص75-76. 38-       حسن بحراوي، مرجع سابق، ص263. 39-     الرواية، ص77.  40-       الرواية، ص81.  41-           الرواية، ص80.  42-           الرواية، ص89.  43-           الرواية، ص89. 44-            الرواية، ص125. 45-            الرواية، ص161.  46-         الرواية، ص100. 47-          الرواية، ص164.  48-         الرواية، ص156. 49-          سوسن ناجي: مرجع سابق، ص152.  50-         الرواية، ص98.  51-           الرواية، ص158.  52-         أحمد الزعبي: إشكالية الموت في الرواية العربية والغربية، مكتبة الكتاني، إربد- الأردن، ط1، 1994، ص180. 53-   المرجع السابق، ص167.  54-         الرواية، ص99.  55-           الرواية، ص169. 56-            الرواية، ص81. 50-            الرواية، ص98.  51-           الرواية، ص158. 
 52-
         أحمد الزعبي: إشكالية الموت في الرواية العربية والغربية، مكتبة الكتاني، إربد- الأردن، ط1، 1994، ص180. 53-  المرجع السابق، ص167.  54-         الرواية، ص99.  55-           الرواية، ص169. 56-        الرواية، ص81. 57-            الرواية، ص 117. 58-         الرواية، ص112.  59-         الرواية، ص109.
 60-
          سمية الخصاونة: الاغتراب في الرواية الأردنية- رسالة ماجستير، جامعة اليرموك، الأردن، 1995، ص25. 61- الرواية، ص119. 62-          الرواية، ص120.
 63-
        حسن بحراوي، مرجع سابق، ص210.  64-    الرواية، ص112.  65-         الرواية، ص123. 66-          الرواية، ص101.
 67-
            الرواية، ص130. 
 68-
         عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية - بحث في تقنيات السرد، عالم المعرفة، الكويت، العدد 240، ديسمبر 1998، ص101.
 69-
            إدوين موير: بناء الرواية، ت: إبراهيم الصيرفي، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، ط1، 1965، ص14.
 70-
       الرواية، ص118. 71-          مراد مبروك: بناء الزمن في الرواية المعاصرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1998، ص179.
 72-
       محمد صالح الشنطي: تقنيات السرد: فوضى المصطلح، علامات، جدة، الجزء 8، المجلد م، يونيو، 1993، ص269.  73- سيزا قاسم: بناء الرواية - دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1984، ص131. 74-      عبد الملك مرتاض، مرجع سابق، ص185.  75- جان ايف تاديبه: الرواية في القرن العشرين، ت: محمد خير البقاعي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1998، ص79. 76- انجيل بطرس سمعان: دراسات في الرواية العربية، الهيئة المصرية، العامة للكتاب، القاهرة، 1987، ص91. 77-            عبد الملك مرتاض، مرجع سابق، ص185.  78-     محمد صالح الشنطي، مرجع سابق، ص271. 79-       السيد فاروق: جماليات التشظي - دراسات نقدية في أدب أدوار الخراط وبدر الديب، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1997، ص19. 80-  روبرت شولز: عناصر القصة، ت: محمود الهاشمي، دار طلاس، دمشق، 1988، ص44. 81-        انجيل بطرس سمعان، مرجع سابق، ص91.  82-        سيزا قاسم، بناء الرواية، مرجع سابق، ص134.  83-  سيزا قاسم، مرجع سابق، ص131.  84-       الرواية، ص20. 85-            الرواية، ص135. 86-            الرواية، ص163-164. 87-    فاتح عبد السلام: الحوار القصصي: تقنياته وعناصره السردية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1999، ط1، ص129.  88-      فاتح عبد السلام، المرجع السابق، ص109.  89-        أ.أمندلاو: الزمن والرواية، ترجمة: بكر عباس، مراجعة: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ط1، 1997، ص134. 90-         الرواية، ص185. 91-          سمية خصاونة، مرجع سابق، ص25.   

المصـــادر والمراجــــع:

  1-       إسماعيل، عز الدين، التفسير النفسي للأدب، دار العودة، بيروت، ط4، ص1981. 
 2-
           بدر، عبد المحسن طه، نجيب محفوظ: الرؤية والأداة، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، د ط، دت.
  3-
           بحراوي، حسن، بنية الكل الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1990. 
 4-
     تادييه، جان إيف، الرواية في القرن العشرين، محمد خير البقاعي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1998. 
 5-
            الخصاونة، سمية، الاغتراب في الرواية الأردنية، رسالة ماجستير، جامعة اليرموك، الأردن، 1995.
 6-
  رضوان، سوسن ناجي، الوعي بالكتابة في الخطاب النسائي العربي المعاصر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2004.
  7-
    الزعبي، أحمد، إشكالية الموت في الرواية العربية والغربية، مكتبة الكتاني، الأردن، ط1، 1994. 8-    سمعان، انجيل بطرس، دراسات في الرواية العربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987. 9- الشنطي، محمد صالح، تقنيات السرد الروائي: فوضى المصطلح، علامات، جدة، ج8، مج2، يونيو، 1993.  10-            شولز، روبرت، عناصر القصة، ت محمود الهاشمي، دار طلاس، دمشق، 1988.  11-           عبد السلام، فاتح، الحوار القصصي: تقنياته وعناصره السردية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1999.  12-    عبد الله، عزيزة، أحلام.. نبيلة، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 1997.  13-   فاروق، السيد، جماليات التشظي: دراسة نقدية في أدب أدوار الخراط وبدر الديب، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1997.  14-   فورستر، إ.م.، أركان الرواية، ت موسى عاصي، مراجعة د. سمر روحي الفيصل، جروس بروس، طرابلس – لبنان، ط1، 1994. 15-    الفيومي، إبراهيم، قراءات نقدية في الرواية العربية، مؤسسة حمادة الجامعية للنشر والتوزيع، الأردن – اربد، ط1، 2001.  16-       قاسم، سيزا أحمد، بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1984.  17-            لحمداني، حميد، بنية النص السردي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط3، 2000.  18-       مبروك، مراد، بناء الزمن من الرواية المعاصرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1998.  19-         مرتاض، عبد الملك، في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد، عالم المعرفة، الكويت، ع 240/ ديسمبر، 1998.  20-           المقالح، عبد العزيز، دراسات في الرواية والقصة القصيرة في اليمن، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1999.  21-     مندلاو، أ.أ، الزمن والرواية، ت بكر عباس، مراجعة أحسان عباس، دار صادر، بيروت، ط1، 1997.  22-         موير، إدوين، بناء الرواية، ت إبراهيم الصيرفي، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، ط1، 1965.  23-        وادي، طه، صورة المرأة في الرواية العربية، دار المعارف، مصر، دت.