العدد الثالث - خريف 2007م

   
 

متابعات
 

الدال والاستبدال في مصادر النص  (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                                            صبري الحيقي
                                                 أديب وتشكيلي من اليمن  

 

 مصادر النص

  النص المقصود هنا هو النص الإبداعي، سواء كان مقروءاً أم مرئياً. ومصادر النص الإبداعي تكون إما من الواقع، وإما من التاريخ، وإما من الموروث الشعبي؛ وإما من أعمال سابقة؛ في إطار المصدر التقني الأساس في تحديد النوع. فإذا كان النص درامياً كانت مصادره التقنية هي: الحبكة، اللغة، الصراع، الشخصيات، الفكر... هذه العناصر تنسج بمادة إما من الواقع وإما من التاريخ وإما من الموروث الشعبي بما فيه الحكاية الشعبية والأسطورة والطقوس...

 التاريخ، الواقع؛ الموروث الشعبي، ثلاثة مصطلحات؛ ولكل مصطلح خصوصيته. ومن المهم جداً تحديد الفوارق والعلاقات بينها؛ فالتاريخ والواقع كلاهما يعتمد على الحقيقة، سواء كانت حقيقة تاريخية أم حقيقة واقعية، ولكن الفرق بينهما أن التاريخ ماض، في حين أن الواقع حاضر. ولهذا الفرق أهميته؛ فما حدث في الماضي قد يكون غريباً أو حتى مرفوضاً في الواقع. أما ما يحدث في الواقع فهو عادة معروف مألوف كقاعدة.

 أما الموروث الشعبي فإنه يختلف عن التاريخ والواقع في كونه يمثل مرحلة تحول من الحقيقة إلى الرؤية؛ من الحقيقة الجزئية المحدودة بالزمان والمكان التاريخي أو الواقعي إلى الرؤية الإبداعية الكلية غير المحدودة والتي تتجاوز الزمان والمكان التاريخي أو الواقعي إلى الزمان والمكان الإبداعي.

 والعلاقة دائمة وحتمية بين الواقع والتاريخ والموروث الشعبي (الفن)؛ فالتاريخ كان واقعاً. والحكاية الشعبية أو الأسطورة عادة مصدرها حادثة أو واقعة تاريخية ثم بفعل الخيال الشعبي وهموم الجماعة الشعبية ورؤاها، تتحول من حقائق جزئية إلى رؤية عامة تحمل قيم الجماعة الشعبية التي تتجاوز الزمان والمكان. ومن هنا تكتسب استمرارية تداولها وأهميتها أيضاً.

 بقيت نقطة مهمة، وهي إشكالية الحقيقة التاريخية والتي تنسحب أيضاً على الحقيقة الواقعية، وأقصد بذلك ما يقدمه اتجاه ما بعد الحداثة.

 إن التاريخ بمفهوم ما بعد الحداثة في حالة من الاختلاف والتغير بسبب اختلاف التأويل؛ تأويل المؤرخ، وتأويل القارئ الذي يمثل مستوى من تأويل التأويل، وهذا نتاج طبيعي لهدم المركزية: مركزية  «اللوجوس» على حد تعبير داريدا.

 وأنا كباحث أرى أن الحقيقة التاريخية قد تواجه إشكالاً في النقل أو التأويل؛ ولكن كل هذا لا يلغي وجود الحقيقة.

 وفي الإبداع يكون مصدر النص دالاً قابلاً للاستبدال برؤية المبدع التي بدونها يبقى النص حبيس قيمته المصدرية، سواء كان تاريخاً أم تراثاً، شعبياً أم واقعاً. من هنا تأتي أهمية الاستبدال التي تشكل قيمتها الدلالية الجديدة. والاستبدال يحتمل أكثر من دلالة، فهناك استبدال تقني وهو ما يسمى باستبدال المجاز بالحقيقة، وهو ما يشكل أسلوب النص، وهناك استبدال موضوعي، وهو الذي نقصده هنا وهو استبدال الرؤية الابداعية بالحالة المصدرية للنص، سواء كان استبدال الرؤية الإبداعية بالحقيقة التاريخية أو الواقعية، أم استبدال رؤية شعبية برؤية أخرى جديدة. وهذا ما سندرسه في هذه القراءة.

 قراءة في لوحة تشكيلية:

  في لوحة «نابليون أمام أبو الهول» (حفر على نحاس) للفنان نحميا سعيد* وهي من مطبوعات معرض باريس الدولي سنة 1937. والتي تصور نابليون بشكل يبدو شامخاً كعملاق ضخم يكاد يطاول أبو الهول (انظر اللوحة)، في اللوحة مجموعة دوال تاريخية، وأهمها الآثار الفرعونية. واللوحة مقسمة إلى قسمين، يتوسطهما أبو الهول ويفصل القسمين. القسم الأيمن: مجموعة شخصيات (ضباط فرنسيين أو شخصيات رسمية) عملاقة يتقدمها نابليون وكأنه عملاق أيضاً بعكس ما عرف عنه تاريخياً من قصر القامة، يقف في مقابل «أبو الهول» ويده على سيفه وكأنه يريد أن يبارزه، في حين أن رأس «أبو الهول» في وضع كأنه يتراجع أمام نابليون الذي يقف بثقة مع تقدم الفرنسيين من خلفه! والذين يتقدمون في شموخ وثبات.

 أما في القسم الذي يقع في يسار اللوحة فهناك مجموعة آثار تاريخية تضم تابوتاً ورمز الهيئة العامة للكتاب الشهير: الرجل الذي يجلس في حالة قراءة وهو محمول على أجساد مقزمة. وفي مقدمة هذا القسم رجل ضئيل جداً ويكاد لا يصل إلى مستوى ركبة نابليون وهو منحن.

  إن الآثار الفرعونية و«أبو الهول» في مقدمتها، حقائق تاريخية، ونابليون أيضاً حقيقة كشخصية تاريخية، ودخوله مصر أيضا حقيقة؛ ولكن الفنان استبدل هذه الحقائق بالرؤية الفنية وهي التي تجاوزت الحقيقة إلى دلالات أخرى (وهذا لا يعني أنني أتفق معه في رؤيته، بل على العكس، فتقزيم الإنسان المصري وتضخيم نابليون أمر مستفز بالنسبة لي) هذه الدلالات تبدأ بالمعنى البسيط المباشر، وهو التضخيم والتجسيم، مقابل التقزيم للإنسان وللمفردات الأثرية.

 إن الفن هو خصوصية اختيار، اختيار ما يدفع إلى التغير والتحول من حالة سلبية إلى حالة إيجابية، أو من حالة موت إلى حالة حركة، أو من حالة استسلام إلى حالة تمرد... ولكن حينما يقف الفن عند حالة إحباط ويزيدها تهويلاً فهذه المشكلة تعني أن الفنان لا يعرف ولا يعي خطورة ما يعمل، أو أنه يعي ويهدف إلى المزيد من التدمير والإحباط. إضافة إلى دلالات خاصة بلغة المفردات التشكيلية، وهي اللون والخط والتكوين.

  واسترسالاً في كشف المزيد من الدلالات بعيداً عن النموذج السابق، فمثلاً اللونان الأبيض والأسود وهما لونان محايدان تشكيلياً سنجد لهما تداعيات شتى في الدلالات فاللون الأسود دال ودلالات تتولد عنه مثل الحزن والشؤم أو الشر، مقابل الأبيض: النقاء، الشفافية، البراءة، ثم يبدأ نوع آخر من الاستبدال للدلالة وهو المرتبط بالخبرة الاجتماعية والاقتران الشرطي مثل اقتران اللون الأبيض بالمرض وذلك من خلال حضوره المقترن بالمستشفيات وسيادة اللون في ملابس الممرضات والأطباء والملاءات وألون الجدران وأرضية المستشفى كلها لونها أبيض. هنا يكون الاقتران الشرطي قد نقل الدلالة، أو على حد تعبير المصطلح قد استبدل دلالة بدلالة تكاد تصل إلى حد التضاد مع الدلالة التى أشرنا إليها سلفاً. إضافة إلى اقتران اللون الأبيض بالبرودة والصقيع، وهذا يكون في المناطق الثلجية. كما أنه قد يقترن بالفرح من خلال ارتباطه بثياب الزفاف كما نعرف. وهكذا تتوالد الدلالات. كل هذا ونحن مازلنا في حدود لونين محايدين. بمعنى أننا لو كنا بصدد لوحة تتضمن الألوان، فإن الدلالات تكون أكثر قدرة على التعدد والاختلاف والاستبدال.

  ولعل أقدم الإشارات إلى هذا التعدد قد وجد في القرآن الكريم، فمثلاً اللون الأصفر جاء ذكره بدلالات خير، مثل قوله تعالى «بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين». وفي مكان آخر استبدل دلالة السرور بالعقاب والخوف، في قوله تعالى في وصف شرر الجحيم «كأنه جمالتٌ صفرٌ».

  ونصل إلى مستوى أبعد من الدلالات، وذلك ما يتعلق بالتكوين؛ فالتكوين في القسم الأيمن من اللوحة منتظم الإيقاع بحركة الضباط الفرنسيين، التي يقودها نابليون، حركة منتظمة توزيع المسافات ومستوى الرؤوس بتناسب مع المنظور يملأ القسم الأيمن من اللوحة بشكل يوحي بالحركة والديناميكية والحياة. كل هذا مقابل الإيقاع المرتبك في القسم الذي يملأ الجزء الأيمن من اللوحة والذي يمثل الإنسان والآثار المصرية والتي لا يبرز فيها سوى «أبو الهول» بدلالته المباشرة كأثر تاريخي لا يملك إلا السكون أمام حركة وفعل الإنسان الذي تمثل في نابليون، مقابل انشغال مجموعة من المصريين بحمل آثارهم. وهناك أربعة تكوينات بشرية مقزمة جداً جداً! تبدو أن لا علاقة لبعضها ببعض!؟ إضافة إلى التكوين الرأسي والأفقي، فالشخصية (نابليون) تكوينها رأسي شامخ، وهذا دلالة الشموخ والقوة. كما يقف شاب وليس منحنياً كعجوز أو مائلاً، وكل هذا له دور في اللعب بالدلالة مقابل التقزيمات وانفراط الإيقاع. ومع هذا يمكننا أن نستبدل دلالة القوة والشموخ بدلالة الجمود والتصلب، خاصة وأنه كان واقفاً كعسكري في حالة انتباه. ولكن هذا الاستبدال قابل للجدل؛ لأن بقية عناصر اللوحة تؤكد المعنى الذي أشرنا إليه.

  إذاً الاستبدال يكون إما على مستوى المفردة بمفردة أخرى، وإما على مستوى دلالة المفردة ذاتها باختلاف تداعيات الدلالات، وإما على مستوى أكثر وضوحاً وبساطة وهو استبدال الحقيقة بالرؤية، وإما استبدال الكل المشتت بالجزء لغرض شمول الكل المكتمل والموحد، وهذا موضوع تكنيكي بحاجة إلى موضوع آخر مستقل.


*  نحميا سعيد، من مواليد الصعيد _أسيوط 1912، نفذ إحدى عشرة لوحة زخرفية للمدخل الرئيسي لجناح القسم المصري بمعرض باريس الدولي سنة 1937، وحصل في العام نفسه على الميدالية الذهبية لمعرض باريس الدولي. توفي سنة 1945. من أوائل رواد فن الجرافيك في مصر بعد الحسين فوزي