العدد الرابع - ربيع 2008م

فصلية تعنى بالكتابة الجديدة

   
 

أول الكلام
 

الشعر: ضوء شفيف وسط غيوم سوداء (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
 

 عبد العزيز المقالح

"تَمَسَّكْ بالإيمان أيها القلب الشجاع
استيقظ من النوم،
من فتور اليأس،
واستقبل بالأغاني نورَ الفجر الجديد
".

طاغور

  كم نحن بحاجة إلى مثل هذا الصوت المتفائل الجميل! أعرف أن الغيوم داكنة، وألاَّ وجود في الأفق العربي كله لسحابة بيضاء واحدة توحي بالأمان، أو حتى باسترجاع الأنفاس. لكن، ما هي مهمة الكلمة إن لم تكن البحث وسط الغيوم السوداء عن ضوء شفيف وسحابة عابرة تنشط الروح وتحمي الأمل من الوقوع في قبضة اليأس!؟ لم يذهب طاغور (1861-1941)؛ فهو موجود أيضاً، وصوته كان وما يزال يتحرك بيننا بحرية. صحيح أن المستمعين إلى معزوفاته ليسوا كُثراً، وأن الطريق المؤدية إلى حديقته لم تعد سالكةً؛ إلاَّ أن الوصول إلى إبداعه الأدبي يبقى سهلاً وممتعاً في الوقت نفسه. وتأكيداً لذلك حاولت «غيمان» في عددها الرابع هذا أن تقدم نماذج من شعره الكوني الإنساني العابر للغات والقارات، والذي لم تستطع سنوات القرن العشرين المليئة بالغلظة والتوحش، وسنوات أوائل القرن الحادي والعشرين المفعمة بالكراهية والحروب أن تقلّل من صفاء هذا الشعر، ولا من براءة رؤيته وتأكيده على الانتماء الإنساني الرافض لكل أنواع التعصب والتحيز لجنس أو عِرق أو طائفة.

لقد كانت الهند -قديماً- منجماً خصباً للأساطير وللشعر في أرقى خصوصياته الإبداعية. وفي العصر الحديث، عندما انفتح هذا البلد على ثقافة العالم، لم يفقد ذاته وثقافته الموروثة، وكان له نصيب وافر من الشعراء الكبار، يتقدمهم طاغور، بحداثته التي لم تكن بعيدة عن مخابئ الإرث الإبداعي وجمالياته وإنسانيته وصوفيته ذات الطقس الخاص. ولعل شعره، القادم إلينا عبر الترجمة في أسلوب موحٍ ورمزي شديد الوضوح، يذكرنا ببعض من موروثنا الصوفي، سواء في بَوحِهِ أم في ترميزه أم في همومه الإنسانية، تلك التي تبحث عن الكائن الخالص المتحرر من التعصب، والمؤمن بالألفة وبالقدرة الإلهية العظيمة التي ترتفع بإنسان الأرض ليكون في تعامله مع نفسه ومع الآخر إنساناً سامياً إن لم يكن سماوياً.

وفي لحظة استحضار هذه المعاني، عبر نصوص شاعر كبير، نلفت الانتباه إلى أن النص الأهم في هذه المختارات هو ذلك الذي يتحدث فيه الشاعر عن الطبيعة، في استقراء عميق، وملاحظة كيف يتجه النص من البساطة والتكثيف ومن الحوار مع الطبيعة إلى الاتحاد بها، مازجاً بين الفكري والوجداني، وما يبعثه شعر، في هذا المستوى، في النفس من دفء مفعمٍ بالغبطة والحنين، ومن دعوة إلى الإمساك باللحظات الهاربة من أعمارٍ تهرب من حياتنا وتتسرب كما يتسرب الماء من بين الأصابع في حالة من السأم واللامبالاة.

وينبغي ألاّ ينسينا الحديث عن طاغور ونصوصه الإشارة إلى النماذج الشعرية التي حفل بها هذا العدد من «غيمان»، وإلى تقدير ذلك العدد من الشعراء الذين بدأوا في إرسال نصوصهم للنشر عبر موقع المجلة على شبكة الانترنت. وفي النصوص المنشورة في هذا العدد، وما سوف ينشر في العدد القادم، ما يثبت أن الشعر العربي بخير، وأنه الآن يمر بذروة تصاعده. ومن خطل الرأي ما يذهب إليه البعض من أن الشعر يتراجع أو يتعرض للضمور. وكما افتتحنا كلمتنا هذه بطاغور سوف يكون الختام بأسطر من نجواه التي يقول فيها:

ألا شرفني يا إلهي،

وجرد حياتي من تلك المساوئ المعيبة

التي تسود دائماً ابن الطين!

ضعها تحت رعايتك،

وخبئها بين ظلال الموت والنور

أو في مكمن الليل بين نجومك

ثم أطلقها في الصباح بين الزهور

لتشدو كالبلابل بتسابيحك وترانيمك