العدد الرابع  - ربيع 2008م

   
 

متابعات
 

اليزابيث باريت وروبرت براوننغ
 حكاية حب من العصر الفيكتوري
 (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)

                                                                                           علي يحيى منصور
أستاذ في كلية اللغات - جامعة صنعاء.

 من عرف وليم شكسبير في الأدب الإنجليزي فلا بد له أن يعرف الشاعرة اليزابيث باريت والشاعر روبرت براوننغ.  لقد شغلت حكاية حبهما الإنجليز والناس أجمعين، في زمن يسميه مؤرخو الأدب «العصر الفيكتوري»، تيمناً باسم الملكة فيكتوريا, راعية الأدب والأدباء.

كان المفروض أن يبقى الحدث مجرد تبادل رسائل أدبية بين زملاء؛ لكنه ما لبث أن تغير إلى رواية غرامية شاع خبرها في عالم الأدب الفيكتوري كله، ومازال في ذاكرة محبي الأدب الانجليزي. أضف إلى ذلك وجود حادث خطف حقيقي أيضاً واكب الرواية. واليوم يتنفس معظم الانجليز الصعداء مرة أخرى حينما يتم نشر الرسائل المتبادلة آنذاك سراً، وتقديمها للقراء بعد وفاة الشاعر والشاعرة. لقد تبادل روبرت براوننغ واليزابيث باريت، خلال عشرين شهراً، ما لا يقل عن 573 رسالة.

«يتحتم علينا أن نتزوج فوراً ونسافر إلى ايطاليا», يقول براوننغ بإلحاح لخطيبته، في العاشر من سبتمبر 1846, في آخر رسالة بعثها إليها. وبعد تسعة أيام تترك اليزابيث، المشرفة على الموت، دون علم أبيها المتشدد, مع وصيفتها اليزابيث ويلسون وكلبها «فلاش», بيت العائلة العتيدة، الواقع في ديمبول ستريت, في خطوة جريئة لبدء حياة جديدة مع روبرت براوننغ بعيداً عن تقاليد مجتمعهما الصارمة.

وحينما شرع الزوجان المقترنان حديثاً رحلة هروبهما عبر لوهافر وباريس، باتجاه ايطاليا, لم تكن اليزابيث باريت تجسّد جولييت العاشقة، بل سيدة في الأربعين، وشاعرة ذائعة الصيت.

أما روبرت براوننغ فإنه أصغر منها بست سنوات، وشاعر تغلبُ عليه الكآبة. لقيتْ مجموعته الشعرية المبكرة حول تمجيد شخصية الباحث عن الحقيقة، «باراسيليوس»، ترحيباً عند النقاد في لندن. لكن ملحمته الشعرية الكبيرة, «سورديللو»، المنشورة في سنة 1840، فشلت فشلاً ذريعاً، لأن قراء الشعر الرومنسي لا يميلون, على ما يبدو, إلى بذل جهد عقلي. كما أن الملحمة المذكورة ذات الستة آلاف بيت تقريباً، وهي تعالج الحياة الروحية المعقدة للشاعر الوجداني المشهور سورديللو, كانت، برأي النقاد، مفرطة في الطول ويشوب الغموض أكثر أجزائها. ولم ينل روبرت براوننغ الإعجاب إلا بعد أن نشر مجموعة مسرحيات وقصائد تحت عنوان «نواقيس ورمّان» وبينها مسرحية «بيبا يمرّ» (التي ألهمت، فيما بعد، الكاتب الألماني غيرهارد هاوبتمان).

وبالرغم من هذا النجاح والإخفاق فقد كان طريق براوننغ إلى الفن والحياة سهلاً. ولد في 7 مايو 1812 بضاحية كامبرويل في لندن. ولم يعرف الهموم في أيام شبابه. لم يكن والده، روبرت، الموظف في بنك انجلترا، بعيداً عن الميول الفنية. لكن الشاعر الشاب نفسه لم يجد التفهم الكافي عند والديه؛ إذ أهمل الأب رغبة الابن في أن يصبح رساماً، لكي يجنب ابنه أي خيبة أمل. وكذلك كان شأن أم الشاعر, وهي اسكتلندية المولد ومن أب ألماني من هامبورغ اسمه فيدمان؛ فقد كانت مقتنعة بموهبة ابنها الخاصة، وهيأت له كل ما كان يحتاجه من كتب المطالعة التي لم تكن متوفرة في مكتبة أبيه الخاصة: أفكار فولتير التنويرية وآراء شيللي الإلحادية.

بدأ براوننغ وهو في الخامسة من عمره بنظم أول مجموعة شعرية صغيرة. لكن المجموعة لم تجد لها ناشراً، مما دفع الشاعر اليافع إلى إحراق باكورة أعماله يائساً. تلقى الصبي دروسه حتى بلوغه الرابعة عشرة في مدرسة خاصة يديرها رجل دين، ثم دروساً خاصة في البيت، خلال السنوات التالية، في الرسم والموسيقى واللغة الفرنسية والرياضة.

وبدأ يحضر محاضرات في اللغة الإغريقية وآدابها اعتباراً من خريف 1828، في القسم الذي افتتح لأول مرة آنذاك. وترك الوالدان الحرية لابنهما الموهوب بعد ذلك الوقت. وعلى العكس من تشارلز ديكنز ووليم ثاكراي، اللذين دفعتهما الحاجة إلى كسب الخبز اليومي بالعمل في الصحافة, فإن روبرت براوننغ لم يجد نفسه يوماً مضطراً إلى السعي وراء وظيفة من أجل الخبز، بل دأب, وفي حرية تامة اقتصادياً, على مواصلة الكتابة.

وكانت حياة اليزابيث باريت قد بدأت أيضاً خالية من الهموم. فقد ولدت في السادس من مارس 1806، في قرية كيللو بشمال انجلترا. واهتمت منذ صغرها بالأدب؛ إذ قرأت هومر واخيلوس بالإغريقية القديمة. وسرعان ما بدأت بنظم القصائد. وقضت، وهي أكبر أخواتها، فترة شبابها دون مصاعب. لكن الشابة المولعة بالرياضة تعرضت لحادث أثناء ركوب الخيل، وأصيبت بكسور بالغة، وداهمها مرض السل في الوقت ذاته.

بدأت اليزابيث منذ ذلك الوقت تعيش حياة المصابة بمرض عضال، زاد وقعه عليها بعد موت أخيها المفضل غرقاً في البحر أثناء ممارسة رياضة السباحة.

انتقلت العائلة للسكن في لندن. واعتاد الجميع فكرة أن ابنتهم المشلولة لا أمل لها في الشفاء، وموتها محتم. وصارت العائلة تصلي كل مساء عند فراشها. ولم تبق للمريضة أي علاقة بالعالم الخارجي سوى مراجعة الأطباء وزيارات متباعدة من بعض الأصدقاء والمعارف المتعاطفين. لكن عالم نفسها الداخلي بقي حياً.

كان إيمانها بخلود الفن هو الذي خفف من ثقل مصيرها المحتوم. فانصرفت يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة، تنظم، على فراش المرض، السونيتات والبالادات الرومانسية، وتكتب أعمالاً نثرية في مواضيع الساعة: مظاهر عبودية الأطفال في المناجم، واضطهاد المرأة.

وفي سنة 1844 نشرت مجموعتين شعريتين، بينهما مرثية «صراخ الأطفال». ذهل نقاد الأدب في لندن، وأثارت تلك الأعمال الأدبية إعجابهم، فتوجوا اليزابيث باريت بصفتها أبرز شاعرة انجليزية في زمانها.

شارك روبرت براوننغ الآخرين وأُعجب بفن اليزابيث الوهاج. لكن هذا الشاعر الشاب، المعتز بنفسه، ذا الروح الحساسة، والذي لم يعد يحظى بإعجاب النقاد، أخفق في إظهار موقفه الشخصي المطلوب من هذه الشاعرة الفذة.

ومع كل هذا دأبت اليزابيث على متابعة قصائده والتعمق في معانيها، مُقدّرة ما يفتعل في روحه من عواطف، وبخاصة مجموعته الشعرية «نواقيس ورمّان» التي دمغها الرأي في عالم الأدب بأنها قاتمة. وذهبت اليزابيث براوننغ إلى حد أنها مدت يد العون سراً إلى شاعرها المفضل حين ضمَّنت بالادتها المعنونة «خطوبة الليدي جيرالدين», نصيحة موجهة إلى البطل أن ينشد لحبيبته واحدة من قصائد براوننغ في ديوانه «نواقيس ورمّان»، لأن الرمّان «كلما قطع أعمق في لبه، يُظهر قلباً له أوردة تكتسب لوناً من دم البشر».

وبعد أيام قليلة يكتشف براوننغ في قصائد اليزابيث الجديدة تلك الالتفاتة الودودة، فيكتب في العاشر من يناير 1845 رسالته الأولى إلى زميلته المبجلة. يبدأ بالكلمات الآتية:

 "أحب قصائدكم من كل قلبي". ويصعّد نبرته حتى الاعتراف الجريء: "أحب، كما قلت، هذه المجموعات الشعرية من كل قلبي، وأحبكم أنتم أيضاً". كانت تلك بداية حب عارم استمر مدى الحياة. وتبقى لبعض الوقت فرص التقرب أمام الشاعر الولهان معدومة.

وتقوم اليزابيث، وقد طغت عليها الفرحة، بتقديم الشكر على تحية براوننغ المفاجئة. وتسرّ إحدى صديقاتها وهي في غاية الغبطة أنها تلقت رسالة رائعة من ملك المتصوفين ومؤلف قصائد "باراسيليوس"؛ إلا أنها تعد سطور براوننغ مجرد التفاتة من مشاعر رقيقة نحوها وهي طريحة فراش المرض، وأنها ترى فيها عطفاً لا تعاطفاً حميماً.

وتكتب اليزابيث في رسالتها الجوابية إلى روبرت قائلة إنها ممتنة لما يبديه الناس من تعاطف تجاهها من كل صوب، "حتى أن النقاد قد دجنوا عظاتهم الشرسة وصاروا ينبحون عليّ برقة الحمائم".

لكن اليزابيث باريت سرعان ما تحس، أثناء تبادل الرسائل الذي تلا ذلك، أن لدى براوننغ أكثر من مشاعر الزمالة نحوها. وهو في الواقع مسحور بشعرها وبشخصيتها المتمثلة في ذلك الشعر. والآن بعد أن أجابت على رسالته، يتلاشى خجله بسرعة أمام رغبته في رؤيتها والتحدث إليها. لكن اليزابيث تريد تجنب هذا اللقاء، لخوفها من أن يؤدي لقاءٌ مع امرأة مريضة طريحة الفراش إلى تحميل الشاعر الشاب هموماً ثقيلة، ودفعه إلى الارتباك والإحساس بالمسؤولية نحوها والعطف عليها, وهذا بالذات هو ما لا تتمناه أن يحصل أبداً؛ فترفض بأسلوب مهذب طلب براوننغ اللقاء معها، بحجة أن والدها لا يسمح بزيارات رجال لابنته الراقدة على فراش الموت.

وفي 16 مايو 1845 تقبل اليزابيث أخيراً، ولو أنها تجد ذلك من غير اللائق أن تتمدد على الصفّة وتعرض مسرحية عن وهنها.

في 20 مايو 1845 يلتقي الاثنان سراً، لأول مرة، في غرفة الشاعرة المريضة. ويبقى الزائر ساعة ونصف الساعة. ويبدو أن اللقاء قد ترك انطباعاً مؤثراً في نفس الشاعر وسلب لبه. وكانت الرسالة التي بعثها براوننغ إلى اليزابيث بعد ذلك اللقاء هي الوحيدة التي لم يكتب لها البقاء.

قام براوننغ بمحاولات عديدة لاسترجاع تلك الرسالة، لكن المرأة التي وقع في حبها الآن ترده بلباقة، مشيرة إلى قواعد السلوك الصحيحة بين الأصدقاء.

يسعى والد اليزابيث إلى أن تكون ابنته المريضة له لوحده. وتعرف اليزابيث أن والدها لن يسمح، بأي حال من الأحوال، بعلاقة حب بين ابنته المريضة وبراوننغ، وأن

لا سبيل للخروج من تلك المشكلة سوى الرسائل والزيارات السرية، للمحافظة على استمرار تلك الصداقة. لكن طبيعة الأب المفرط في التزمت تبدو واضحة للعيان، وتظهر نواياه الأنانية حينما يرفض بشدة نصيحة الأطباء أن يرسل ابنته المريضة لبعض الوقت إلى بلد دافئ المناخ. ويحس الأب بشيءٍ من المرارة، لأن صحة اليزابيث في الأشهر القليلة الماضية قد تحسنت شيئاً ما بصورة مفاجئة، حتى أنها بدأت بالخروج والقيام بنزهات قصيرة أثناء الأيام الدافئة. ولم تخفَ على الأب بطبيعة الحال مشاعر الابنة نحو براوننغ وأخبار الصداقة التي انقلبت إلى علاقة حب. فيقرر أن يفرق بين الحبيبين، ويعلن أن العائلة ستترك لندن وتنتقل للسكن لمدة طويلة في الريف.

 

وتنتبه اليزابيث إلى أبعاد اللعبة، وتدرك بألم بالغ دوافع والدها، فيسهل عليها اتخاذ القرار الحاسم. في 2 سبتمبر 1846 يعقد الحبيبان، اليزابيث وبراوننغ، قرانهما سراً، ويذهب العريس لوحده إلى بيته وكأن شيئاً لم يكن.

 

وبعد أسبوع من ذلك الحدث يرحل الزوجان، ترافقهما وصيفة اليزابيث، وكلب اليزابيث المدلل "فلاش", دون علم السيد باريت, متجهين نحو باريس. لم يصفح الأب المتزمت لابنته هذا العصيان لسلطته المستبدة. لقد أعاد الأب كل الرسائل التي بعثت بها ابنته إليه, دون أن يقرأها. وعاقبها حتى بعد موته، حيث كان قد أوصى بحرمانها من الإرث.

 

توجه الزوجان براوننغ أولاً إلى باريس، حيث قضيا فيها أسبوعاً. ثم واصلا الرحلة إلى مدينة بيزا في ايطاليا، ليمكثا فيها ستة أشهر، أي حتى أبريل 1847.

 

كان للطقس الجنوبي وللسماء الايطالية والحياة الزوجية الخالية من التعقيدات، تأثير كبير في تحسن صحة اليزابيث إلى حد بالغ، حتى أنها كتبت إلى إحدى صديقاتها تقول: "إني لم أكن بهذه السعادة في أي وقت مضى".

 

تنهي اليزابيث نظم 44 سونيتة تفاجئ بها زوجها في بيزا. وتسلم هذه النصوص، استجابة لطلب روبرت، لغرض نشرها فيما بعد، مع تمويه المجموعة الصغيرة بأنها مترجمة عن البرتغالية. وتتأثر الأوساط الأدبية في انجلترا، وتستشهد بالأبيات المستلة من تلك القصائد: "كيف أحبك؟ دعني أحسب الأساليب!...".

وبعد بضعة أجيال يقرأ محبو الشعر في ألمانيا، بتأثر مشابه، ترجمة ريلكه لتلك الأبيات: "كيف أحبك؟ دعني أحسب الأساليب. أحبك حباً لا قرار له، سامياً ولا متناهياً, حتى حدود ما تبلغه روحي دون تردد, حينما تشعرك بوجودها والأبدية".

سارت حياتهما مثل "حركة خبب فوق عشب". في سنة 1848 ينتقل الزوجان في فلورنسا إلى شقة متواضعة في قصر صغير صار فيما بعد عنواناً لقصيدة سياسية نظمتها اليزابيث باريت براوننغ، "كاسا غيدي". كان المبنى قائماً على ركن (وهو يضم اليوم متحفاً صغيراً لعائلة براوننغ) يقع مقابل متحف بتي وحديقة بوبولي. يستمتع الزوجان بمشاهد ارتوشنات الخلابة. ويقومان بنزهات على ظهور الخيل إلى انكونا ودافينا. وينظمان الشعر، ويطالعان، ويعزفان الموسيقى، ويستقبلان بين حين وآخر المعارف من الانجليز المقيمين في ضواحي فلورنسا. وتصف اليزابيث حياتها المتحررة في إحدى رسائلها بأنها: كـ"جري خبب فوق عشب". ويصف روبرت حياة عائلته المتناغمة، مؤكداً بلغة مجازية قائلاً: "نحن سعيدان مثل بومتين في جحرهما، أو ضفدعتين ساكنتين عند جذع شجرة". ويتوج ميلاد ابن لهما تلك السعادة. يسميانه روبرت، الذي يولد في 9 مارس 1849، ويكنيانه باسم "بن".

لكن تلك الأجواء الشاعرية التي عاشها الزوجان لم تؤدِّ إلى سكونهما، بل دفعتهما إلى نوع من التنافس المثالي في الإبداع الأدبي.

لم تكن ايطاليا في نظر الاثنين مجرد متحف. فهما يبديان الاهتمام نفسه بالفن وبالحياة اليومية والأحداث السياسية في أرض أحلامهما التي كانت آنذاك تفتح أعينها، في سنة الثورة الأوروبية 1848/ 1849، للتخلص بثورة دموية من الهيمنة الفرنسية النمساوية.

وتتخذ اليزابيث باريت براوننغ من أوضاع ايطاليا موضوعاً لمسلسل من القصائد تحت عنوان "نوافذ كاسا غيدي"، وتنشرها في سنة 1851.

وينشر روبرت براوننغ في سنة 1855 تجاربه ومشاهداته الايطالية في مجموعة قصائد تحت عنوان "رجال ونساء"، إضافة إلى مناجاة فنان دراماتيكية بعنوان "فراليبو ليبي"، و"اندريا دل سارتو". وقد ذاع صيت هذه الأعمال في الأوساط الأدبية فيما بعد. وبعد سنتين نُشر كتاب للشاعرة اليزابيث بعنوان "اوروراليه"، وأثار اهتماماً بالغاً. وهو يعالج -شعراً- قصة كاتبة انجليزية ايطالية تناضل في سبيل حقوق المرأة والعدالة الاجتماعية.

هكذا يستمر الزوجان الشاعران العاشقان خمس عشرة سنة على التمتع بالحياة والإبداع الأدبي في فلورنسا. ويقومان بزيارة ميلانو والبندقية. ويلتقيان زميلهما ثاكراي وابنتيه في روما, وتوماس كارلايل وجون رسكن في لندن، وجورج صاند في باريس وتدون اليزابيث رأيها في جورج صاند قائلة: "إنها سيدة نبيلة الخلق تعيش في وسط كومة من القمامة". وكانت اليزابيث تكنّ لجورج صاند تقديرًا كبيرًا إلى حد يصل إلى تقبيل يد تلك الزميلة الفرنسية.

وفي أوائل صيف 1861، بعد عودة الزوجين إلى فلورنسا الوادعة، تموت حبيبة روبرت براوننغ في 29 يونيو في كاسا غيدي، وتوارى الثرى في المقبرة البروتستانتية في بورنابنتي. ويترك روبرت براوننغ وابنه فلورنسا دون عودة.

ويستقر روبرت براوننغ مجدداً في لندن مُنكبّاً على الكتابة. ويلقى ديوانه المسلسل "شخصيات المسرحية" في سنة 1846 رواجاً في إنجلترا وكذلك في أميركا بصورة خاصة. كان مزاج النقاد قد تحول إلى مصلحته في بلده. وكذلك في الأوساط الأكاديمية في العالم، التي لم تكن تعرف حق قدره. وأبدت نحوه ما يستحقه من تعظيم: منحته جامعة كمبردج في سنة 1879 درجة الدكتوراه الفخرية في القانون، كما منحته جامعة أكسفورد بعد ذلك بثلاث سنوات درجة الماجستير الفخرية. وتدفعه مبادرات التكريم التي توالت عليه من كل جانب إلى الحياة الاجتماعية والصداقات. وحظي الشاعر المبجل برضا أوساط لندن الأدبية. وانكبّ على كتابة رائعته المسرحية الكبرى "الخاتم والكتاب"، وهي ملحمة محورة لجريمة قتل قروسطية تدور أحداثها في توسكانا. نشر هذا الكتاب الضخم المكون من 12 جزءاً ابتداءً من 1868، وعده النقاد من أثمن هبات الفكر الإنساني منذ شكسبير. لكن هذا العمل الأدبي العظيم سرعان ما اختفى في طوايا النسيان, على عكس هبات شكسبير.

مات روبرت براوننغ في 12 ديسمبر 1889, بمدينة البندقية في بلازو ريزونيكو، وهو مسكن ابنه "بن"، الذي كان قد استقر وتزوج فيه. لكن رحلة روبرت براوننغ الأخيرة لم تكن إلى فلورنسا, حيث ترقد زوجته اليزابيث, بل إلى لندن، حيث دفن في كنيسة ويستمنستر، مع كل ما يستحقه من مظاهر التكريم. ولم تطمس ذكرى "فلاش", وهو الكلب الذي تعلق به آل براوننغ صديقاً وفياً؛ إذ أن الكاتبة الانجليزية الكبيرة فرجينيا وولف قد خلدته بعد سنوات عديدة بعمل أدبي مناسب.

لكن ثلاثة فقط في كل دنيا الله

 لكن ثلاثة فقط في كل دنيا الله

 سمعوا هذه الكلمة التي قُلتَها, «هو», إضافة

 إليك متكلماً، وإليّ مستمعة! وأجاب

 أحدنا: كان ذلك الله... ووضع اللعنة

 بنحو خفي فوق جفوني, عقاباً

 لنظري كي لا أراك. فلو أني متُّ,

 لغدت أثقال الموت المتراكمة هناك أقل وطأةً

 بكثير. و»لا» صادرة من الله أسوأ من

 «لا» ينطقها الآخرون أجمعون. آه يا صديقي!

  لا يستطيع الناس أن يفرقوا بيننا بصريرهم الدنيوي,

 ولا البحار قادرة على تغييرنا, ولا العواصف تُخضعنا.

 ستمتد أيدينا نحو عوائق الجبال

 والسماءُ وقد نُشرت بيننا في نهاية المطاف,

 لم يبق لنا سوى الانطلاق الأقصى نحو النجوم.

  

 متباينان نحن, متباينان, آه يا قلبي النبيل!

 

متباينان نحن, متباينان, آه يا قلبي النبيل!

 متباينة ميولنا ومصائرنا.

 ملاكانا المراقبان ينظران مدهوشين

 إلى بعضهما, ضاربين بالأجنحة,

 وهما يمرقان. إعلم أنك

 ضيف ملكات لمواكب اجتماعية

 برموز تحدٍّ من مائة عين أكثر سطوعاً

 من دموع لا تقدر أن تحملني على تمثيل دورك

 موسيقياً أقدم. ما الذي عليك القيام به

 بالنظر إليّ من خلال الأنوار المشبكة؟

 مُغنٍّ, مُتْعَب, جوّال, يغني عبر

 الظلام وهو يتكئ على شجرة سرو!

 زيت العماد المقدس على رأسك. على رأسي الندى...

 وعلى الموت أن يحفر العمق المطلوب لتوافقها.

  

 هل يصح أن أهب ما أستطيع أن أهب؟

 

هل يصح أن أهب ما أستطيع أن أهب؟

 أن أدعك تجلس تحت شلال الدموع

 المالحة مثل دموعي, تستمع إلى السنين المتنهدة

 وهي تكرر التنهدات على شفتيّ، تتخلى زاهدة

 عبر تلك البسمات النادرة وهي تأبى الديمومة

 من أجل مناشدتك فحسب؟ آه يا مخاوفي

 ألاّ يكون هذا عدلاً! نحن لسنا أنداداً

 لكي نصبح عشاقاً؛ إني أعترف وأحزن,

 لأن مانحيّ مثل هذه الهبات الشبيهة بهباتي, يجب

 أن يُعدّوا من البخلاء. كفى! واحسرتاه!

 لن أوسخ لون أرجوانك بغباري,

 أو أشم سمّي على كأسك الفينيسية,

 ولن أمنحك أي حبٍّ ليس بصالح

 يا حبيبي! أنتَ الذي أحبّ! دع الأمر هكذا!

  

اعترافات

  ما هذا الأزيز في أذنيَّ؟

 

«الآن وقد أشرفتُ على الموت,

 هل أنظر إلى الدنيا وكأنها وادي البؤس؟«

 آه! أيها السيد الموقر! ليس أنا!

  ما رأيتُه هناك مرة, وما أراه مرة أخرى

 حيث توجد قناني الدواء

 على حافة المنضدة, هو درب ضيق في ضاحية,

 يحاذيه جدار بجانب فراشي.

 كان ذلك الدرب ينحدر, كما هو شأن القناني تماماً,

 من بيت يمكنك اكتشافه

 من فوق حائط الحديقة: هل هو الستار الأزرق

 أم الأخضر لعَيْنٍ صحيحة؟

 أمّا لعيني فيبدو ملائماً لطقس يونيو العتيد:

 أزرق فوق الدرب والحائط,

 وتلك القنينة الأبعد المختومة بـ«أثير«

 هي البيت الذي يعلو كل البيوت الأخرى.

  عند شرفة هناك في مكان قرب مرقب المشهد,

 كانت تنتظرني, في أحد شهور يوليو,

 فتاة؛ أدري, يا سيدي, هذا غير لائق,

 ذهني الضعيف ليس صاحياً.

 إلاّ أنه كان هناك طريق...

 زحفتْ

 إلى مقربة من الجانب لتختلسَ

 النظر إلى داخل البيت, عينان، عدا

 أنهم سمّوا بيتهم «الكوخ«.

  بأيّ حق جاء متسكعٌ على دربهم؟!

 لكن متسللاً حتى موقع قريب,

 مستعيناً بالحائط العتيد, لعل عيونهما تجهد وتتحول إلى آهات!

 ومع ذلك لم تستطع أن تلمحنا معاً قط,

 وهي تغادر حجرة السقف, هناك,

 عند حافة القنينة المسماة «أثير«,

 متخفيةً من سُلّمٍ إلى سُلّم,

 وقفت عند البوابة المكللة بالزهور. وا أسفاه!

 تبادلنا الحب, يا سيدي! اعتدنا على اللقاء.

 كم كان ذلك محزناً وسيئاً وجنونياً!

 ولكن بَعدُ, كم كان حلواً!

    

 

«ثق أنني أمعنت النظر إلى عينيها...

سعيدتين ومفعمتين بالحيوية. وعلمت أخيراً

 أن بورفيريا تعبدني. المفاجأة

 أثقلت قلبي. وزاد ثقله

 بينما أنا حائر فيما أعمل.

 صارت لي في تلك اللحظة, لي, جميلةً

 كاملة الطهر وطيبّة. عرفت

 ما عليّ عمله: ضفرتُ كل شعرها

 في ضفيرة واحدة ذهبية طويلة

 لففتها ثلاث مرات حول عنقها الرقيق،

 وخنقتها. لم تشعر بأي ألم؛

 أنا على يقين أنها لم تشعر بأي ألم.

< روبرت براوننغ (من مجموعة «حبيب بورفيريا», قصائد درامية, 1842).

  بتصرف عن الملحق الأدبي للصحيفة الألمانية «دي تسابتونغ».