العدد الرابع - شتاء  2008م

   
 

نصوص سردية
 

مخلوقات الغواية النبيلة (لقراءة المقال بصيغة أكروبات)
                     
  (مونودراما)

                                                                              علي حـداد

 (تُرفع الستارة، فتظهر غرفة تحتل مساحة المسرح كلها. هناك شباك واسع من جهة اليمين، تغطيه ستارة شفافة. الباب في جهة الشمال. وسط الغرفة هناك سرير لشخص واحد. توجد مكتبة بقرب السرير، يستقر فوقها مذياع يبث موسيقى هادئة طيلة العرض. كتب وأوراق مبعثرة في أرض الغرفة.

تعتيم للإضاءة، ثم تعود لتسقط على رأس فوق السرير، من دون أن يظهر من الجسـد أي شيء. يبدأ العرض بالموسيقى التي يبثها المذيـاع، ثم تأخذ بالتلاشي شيئاً فشيئاً. يتحرك الرأس بتململ، يفتح عينيه، ينظر إلى أكثر من شيء. ثم بعد تأمل، يبدأ بالكلام).

الرأس: حين خلق الانسان، أي جزء خلق منه أولاً: الرأس أم الجسد؟

 (صمت قصير) ترى هل ابتدأ الخلق من قمة الرأس أم من أخمص القدمين؟

 (صمت) أظن أن الرأس هو الذي خلق أولاً.

 (صمت) ولكن ما أهمية الأسئلة التي تهذي بها؟ لم يتح لأحد

 أن يعيش جسداً بلا رأس، أو رأساً بلا جسد. لقد لزم أحدهما الآخر،

 وتنفسا الوجود معاً: الرأس والجسد.

 (بتحسر) أنا وحدي الرأس الذي غادره جسده تاركاً إياه معلقاً في فراغ لا يملؤه إلا الخواء. حسناً (بنفاد صبر) ولكنه يبقى سؤالاً يمد أصابع تعطشه إلى إجابة:

  أي جزء خلق أولاً: الرأس أم الجسد؟ الرأس أم الجسد؟

  ياه! ما هذه الموجة من الهذيان التي تركبك أيها الرأس الملفع

  بسكون عزلته؟

 (بانفعال) ما قيمة أن تعرف الإجابة؟

  لقد مضى عليك زمان شدت أيامه بحبال الصمت المطبق، وها أنت تُبعث

  من جوف رقادك لتهذي بما لا قيمة له.

  (صمت) أهذي… وهل لي غير ذلك! إني أقلق راحة الصمت الداجي

  الذي يحاصرني بالكلمات المتورمة ضجراً. نعم، بالكلمات... بالكلمات

  وحدها أستطيع أن أبث حرارة الوجود في دواخلي. ألقي بها حجارة في

  بئر صمتي، فأرجّ نوم روحي، كي تستيقظ ثانية.

  (بحرقة) لقد مضى عليَّ زمن كجوع الصعاليك منذ أن غادرني جسدي

  ضجراً وتركني وحيداً، ألوك الصمت والغبار.

  (بحركة منفعلة) لا بد أن أستيقظ! لا بد من ذلك.

  (صمت) سأستعين بمدية الوهم كي أقطع حبال الحقيقة التي تعصف

  كريح خرساء في داخلي، وأنهض ثانية.

  (صمت) ولكن... كيف؟ كيف؟

  (بفرح) حسناً… حسناً... عليّ أن أتخيل جسداً أستقر على

  توازنه. لأصنعه ولو من خيوط الوهم!

  (مفكراً) لمَ لا؟ بعض الوهم الذي لا أملكه، مع بعض الحقيقة التي

  تهاجمني بأنياب حضورها، ويمكن للوجود أن يتوازن.

  (يتحرك الرأس بطريقة توحي بأنه يقوم برسم شيء)

  سأرسمه... سأرسم الجسد، هكذا... نعم، الرقبة أولاً، ثم الأكتاف،

  الذراعين، الوسط، الأرجل، والأقدام. (بمرح) لألبسه شيئا يستر

  عورته، هكذا جيد... جيد.

  (بحركة توحي بسعادة غامرة)

  والآن سأستقر فوقه وأنهض به.

  (يظهر الجسد كاملاً)

  وهكذا صار لي كيان جسدي كامل. سأنهض به معلناً بدء ولادة جديدة.

  (يقوم من سريره. بتأمل) ولادة؟ وأية ولادة على جسد من خطوط

  وظلال وأوهام؟

 (يصمت، ثم يتكلم باستغراب)

  كيف يمكن للمرء أن يولد كاملاً مرة واحدة؟

  إنها مأساة تدمي عيون القسوة ألاّ يكون للمرء شجرة طفولة تنمو وتتعالى.

 طفولة... طفولة بريئة:

 قامة لا تزيد عن الشبرين،

 لسان يلهث وراء لثغ الكلمات المتعثرة،

 أقدام صغيرة ترفض الأحذية، وهي تتخاطف الطرقات

 مسرورة باكتشاف خفاياها،

 أصدقاء مشاكسون، إخوة ملحاحون،

 أب طيب يقيس نمو قامتك بنظرات حب مكتوم،

 أمٌّ تفيض لمساتها بآنية المحبة، أمّ حنون… تضع

 رأسك على حجرها فيسبح وجودك في دفء صوتها:

 (صوت الأم من وراء الستار تغني)

  نم… نم… يا صغيري

  نم… نم… يا أمـيري

  نم… نم…

  فالعصافير استراحت

  وطيور الحب للأعشاش راحت

  وأغاني التعب البيضاء لاحت

  تطلب النوم، فهيا يا صغيري

  نم... نم...

 (يختفي صوت الأم. ويعود الرأس، الذي صار له جسد، من استغراقه في حلم الطفولة)

 الرأس: ياه… ما أعذب حس الطفولة! ما أطيب مذاقه!

  (مستدركاً) ولكني وأمثالي من أبناء الفقراء لم تكن طفولتنا إلا لحظات ما لبثت أن كبرت... بالجوع والتعب، حتى لقد استيقظنا مبكرين منها. 

  الطفل الفقير ليس له أن يلتذ بدفء طفولته، بل عليه أن يظل شاخص البصر نحو اليوم الذي يصبح فيه رجلاً، ليقتل بخنجر تلك الرجولة العجلة أشباح الفقر التي تسخر من قامته.

  (متذكراً) أذكر عندما كنت صغيراً أني سألت معلمنا في المدرسة...

  (يأخذ هيئة طفل، ويتصور نفسه جالساً في الفصل الدراسي)

 الطالب: أستاذ... أستاذ.

  (يغير هيئته وصوته، ليصبح المعلم)

 المعلم: نعم يا ولدي.

 الطالب: يا أستاذ، لماذا هناك غني وهناك فقير؟

             (يستعيد هيئته التي هو عليها)

 هو: ضحك الطلاب، مما تصوروه سذاجة في السؤال.

 ولكن المعلم أجاب...

 المعلم: الدنيا أرزاق يا ولدي، وكل إنسان ينال رزقه.

 هو: حينها نظرت إلى المعلم ملياً. كنت أسمعه   وهو يردد جملته بحزن فاضح، فأدركت عندها أن المعلم فقير مثلي،  فانفطر قلبي حزناً عليه. بعناد سألت المعلم ثانية...

  (يعود لتقليد صوت الطالب الصغير وحركته)

 الطالب: أستاذ... أستاذ، هل يمكن للفقير أن يصبح غنياً؟

 هـو: أجاب المعلم بنبرة تأكيد...

              (يقلد صوت المعلم وحركته)

 المعلم: أكيد، أكيد يمكن له ذلك.

             (يقلد صوت الطالب وحركته)

 الطالب: كيف؟ (يقولها برجاء) كيف يا أستاذ؟

  (يستعيد صوته الأصلي)

 هـو: سألته وكأني أنتظر منه أن يعطيني مفاتيح الثراء.

  (ببرود) ولكنه أجابني بكلمات

  كانت أقسى من دلو ماء بارد ألقي عليّ...

  (يقلد صوت المعلم)

 المعلم: بالجد والسهر والعمل الدؤوب… يا ولدي.

              (يستعيد صوته الأصلي)

 هـو: وجدت نفسي وقد تركبني عناد ثور في مشاكسة معلمي الفقير مثلي.

  رفعت صوتي حتى بدا متحشرجاً...

              (يقلد صوت الطفل الصغير)

 الطالب: أستاذ… أستاذ، إن والدي يجد ويعمل كثيراً. إنه يخرج من البيت  منذ الفجر، حتى من دون أن يتناول إفطاره، ولا يعود إلا مع الليل.   في حين أن والد صديقي لا يخرج لعمله إلا بعد العاشرة صباحاً،   ويكون قد تناول إفطاره، وارتدى ثيابه المعطرة، وركب سيارته  الفاخرة، وبعد أن يقضي في عمله ساعة، أو ساعتين، يضجر منه، فيتركه ويغادر إلى لهوه ومجالس أنسه، ومع ذلك فإنه يكسب أكثر من والدي، يا… أستاذ؟!

  (يستعيد صوته الأصلي)

  هـو: أطرق معلمي صامتاً. 

 في حين كنت مشغولاً بزهو انتصاري عليه، فقد أفحمه ردي.

  لمحت دمعة في طرف عينه.

  ومع أنه أمرني أن أجلس، بإشارة من يده، إلا أنني بقيت واقفاً.

  وبسطوة الانتصار تلك التي تحققت لي سألته بعناد من يقرر أمراً...

             (يقلد صوت الطالب)

 الطالب: أستاذ… أستاذ... أريد أن أصبح غنياً؟

  (يستعيد صوته الأصلي)

 هـو: ابتسم المعلم وهو يداري حزنه...

  (يقلد صوت المعلم وحركته)

 المعلم: الغنى غنى العقل يا ولدي، غنى العقل.

  (يستعيد صوته الأصلي)

 هـو: وظلت جملته تلك ترنّ في أذني طيلة الساعات والأيام والسنين.

  الغنى غنى العقل، الغنى غنى العقل.

  (صمت) عرفت حين كبرت، ومرت عليّ السنوات والتجارب، أن هذا النوع من الغنى هو احتيال الفقراء على وجودهم المادي الناشف كبئر مهجورة، وعلى زمن لا يعطيهم فرصة نيل الثراء من أموال وقصور وسيارات. وبفعل معاكس لذلك فإنهم يشنون هجومهم العقلي على جيوش فقرهم التتري، ليتنفسوا بعد ذلك الصعداء مرتاحين إلى انتصارات معنوية مزعومة. ومع أنهم كلما كثرت ثروة عقولهم  زادت جيوبهم خواء ونظافة، فإنهم يشمخون بكبرياء ملكي، وسطوة قيصرية على العالم من حولهم، بكبرياء من يملك كنوز سليمان، ولكنه  زاهد فيها.

  (ضاحكاً) الطريف في الأمر أن كثيراً من الأغنياء يسقطون فريسة هذا  الثراء المعرفي، وبغباء مطلق، فيروحون يتمسحون بأذيال وعي أولئك  المثقفين الفقراء، طالبين ودهم.

  (يصمت، ويعود ليتذكر) الغنى غنى العقل.

  رحت أسأل: كيف يغتني العقل؟ قيل: بالقراءة. سألت: ماذا أقرأ؟

  قيل: اقرأ لأفلاطون... فقرأت.

  واقرأ لأرسطو… فقرأت.

  واقرأ للكندي… فقرأت.

  واقرأ لابن رشد... فقرأت.

  واقرأ لروسو... فقرأت.

  واقرأ لهيجل… فقرأت.

  واقرأ للمتنبي… فقرأت.

  واقرأ للتوحيدي... فقرأت.

  واقرأ لإخوان الصفا... فقرأت.

  واقرأ للمعري... فقرأت.

  واقرأ للعقاد... فقرأت.

  واقرأ للسياب… فقرأت.

  واقرأ لأدونيس... فقرأت.

  وقرأت… وقرأت… وقرأت...

  صرت مزهواً بقراءتي، دالاً بها على أصدقائي ومعارفي.  صار الكتاب جزءاً ملاصقاً لثيابي أينما ذهبت.

  صرت أغضب أشد الغضب على نفسي حين يمر يوم ولم أضف فيه لثروتي ما يرفع من أرصدتها في بنوك عقلي المزدحمة بالقراءات.

 ومع أن جيوبي كانت تشكو من النظافة في الغالب، فقد كنت زاهداً في ما يمكن أن يسيء إلى سمعتها من وسخ الدنيا، المسمى: النقود.

  (صمت) وفي يوم (بنبرة إثارة) وعند منتصف الليل أو بعده بقليل، حصل لي ما لا يمكن لأي إنسان أن يصدق حدوثه.

  (بصمت) لقد صحوت على ضجة غريبة في غرفتي: أصواتاً، وطنيناً،  وخفق أجنحة صغيرة.

  (صمت) فتحت عيني ببطء.

  (بصوت أعلى وأسرع) فتحتهما على كل سعتهما.

  (بصوت ضعيف) والتوى لساني كالخرقة المبللة. توزعت الدهشة

  نظراتي المتناثرة.

  لقد كانت غرفتي ملأى بمخلوقات صغيرة طائرة، مختلفة الألوان  والأشكال، فيها الخضراء، والبيضاء، والزرقاء، والمشعة بألوان قوس قزح. فيها الكبيرة بحجم طيور الحب، والصغيرة بحجم الفراشة.

  حشود من المخلوقات تتقافز وتتشكل بهيئات وإيقاعات مذهلة.

  بقيت لوقت طويل أتأمل هذا الزحام اللوني المصفق بأجنحة من ضوء

  يخطف الأبصار والقلوب.

  (صمت) بعد عبوري لجسر الدهشة استعدت الإحساس بما حولي، فشعرت بالخوف، فهذه المخلوقات آخذة في الازدياد، وهي تتدافع متجهة نحوي.

  تمالكت نفسي وقررت أن أقاومها. أول ما خطر لي هو أن أمد يدي إلى  الوسادة. حملتها وركضت نحو الشباك... فتحته ورحت أطارد هذه  المخلوقات لإخراجها من الغرفة.

  كانت تتقافز من أمامي بخفة عجيبة، ولكنها لا تغادر الغرفة، بل تتجمع متنقلة فيها من جهة الى أخرى وكأنها تداعبني.

  ازداد غيظي، وتسارعت معه ضرباتي لها بالوسادة من دون جدوى.

  (صمت) أصابني الإعياء، فسقطت إلى الأرض وظل بصري شاخصاً إلى السقف حيث تجمعت المخلوقات العجيبة.

  كانت أصواتها تتعالى كهدير مظاهرة غاضبة.

  شكلتْ خيطاً منتظماً التف حولي، ورأيتها تغادر الغرفة ولكن ليس إلى خارجها، (بدهشة) بل لتدخل من أذني إلى أعماق رأسي، بهدوء مقدس.

  (صمت) في البدء تخشب جسدي محترقاً كالفحم من الرهبة، والصمت الذي راحت غرفتي تشربه. رحت أتحسس رأسي، أهزه... أهزه بعنف وغضب؛ أريد لتلك المخلوقات التي دخلته أن تتساقط منه.

  (بيأس) ولكن من دون جدوى. صرخت بحنجرة محترقة:

  أيتها المخلوقات الغريبة، ما أنت؟ من أين أتيت؟ ماذا تريدين بي؟

 لماذا تنحشرين في كهوف رأسي المرهق؟

 رحت أضرب رأسي بالفراش ثم بالجدار. توسلت بها:

  أرجوك أيتها المخلوقات الطيبة! غادري رأسي... وخلصيني من رماد القلق الذي يحاصرني ويكاد يخنقني. أتوسل إليك أن تخرجي!

  ولكن مياه توسلاتي الساخنة لم تغسل صخرة صمتها التي احتلت مساحة  رأسي.

  وجدت نفسي في عوالم من الفراغ أدور فيها.

  أصابني الإعياء، فنمت في مكاني بلا حراك.

  (صمت) لم أصحُ حتى شعرت بخيوط الشمس تمسح الليل عن عيوني.

  عندما استيقظت كنت إنساناً آخر. شعرت بذلك منذ أول لحظة، وكأن غشاوة بحجم جدار قد رفعت عن عيني، أو كأن كل الأشياء والأفكار قد غسلت بالزئبق فبدت شفافة صافية.

  صرت أرى الأشياء بعدسات مكبرة.

  لم يكن الأمر كذلك حتى مساء الأمس.

  (بتساؤل) ماذا حصل لي؟

  ما الذي أحالني إلى بصيرة خارقة الإدراك؟  فجأة، أستيقظ، في داخل رأسي رنين خفيض كصدى يتلاشى لضربة بيانو.

  تكررت عدة مرات ثم تلاشت.

  (صمت) تذكرت تلك المخلوقات وشعرت بحركة في أعماق رأسي.

  (صمت. ثم باندهاش) في الليلة اللاحقة تكرر ما حدث في سابقتها. فما إن تمددت على السرير حتى خرجت تلك المخلوقات أسراباً  طائرة.

  كان خوفي قد تلاشى تماماً.

  أردت أن أغادر سريري في محاولة لدعوة أفراد  ائلتي كي يشاركوني متعة النظر إلى كرنفال فرح تلك المخلوقات من حولي.

  (باندهاش) ما إن تحركت نحو الباب حتى راحت تتجمع، وتقف بيني وبينه.

  دفعتني نحو السرير بغضب، وراحت تندس بانفعال حارق في أذني، تاركة  ممرات من الألم الملتهب في الطريق الذي تسلكه الى أعماقي، مما دفعني إلى الصراخ.

  تكرر الأمر في الليالي اللاحقة، وبقسوة أشد. وبدأ الطنين الغاضب لتلك المخلوقات يزداد ضراوة. ولم تعد تكتفي بالليل ميداناً لسطوتها. بل أخذت تعبر عن انفعالاتها نحوي خلال النهار أيضاً.  كانت تختار الوقت أو الموقف الذي يكون عليّ فيه أن أبدي رأياً أو أقدم  على عمل فأتردد أو أميل إلى المجاملة، أو الصمت، أو اللامبالاة.

  كانت لا ترضى عن تلك التصرفات السلبية.

  حين ذاك أشعر بها تتجمع وتأخذ بالضرب علىجدران رأسي بقسوة ثيران هائجة، ولا ترجع إلى هدوئها إلا بعد أن أفعل ما يرضيها، فأنطق  بالحقيقة التي لا تعجب أحداً سوى تلك المخلوقات.

  (يتذكر) مرة... كنت أستمع لأحد المحاضرين، وكان يتحدث في موضوع اجتماعي.

  راح يسترسل بادعاءات فارغة وتجارب سقيمة ولغة تخلو من المحتوى.

  (يرتدي رأس حمار ويقلد صوت ذلك المحاضر)

 المحاضر: ... وترتكز الموضوعة السوسيولوجية، في هيئتها النهائية على  بعدين يتساوقان في التمحور على قاعدة مستقرة في أعماق الوجود البشري، تنبثق من هيمنة مواضعات تتسم بطابع جدلي، يتخلل هامشية الارتكاز الهابط في هيأة هيولية… ها.. ها.. ها.

  (يعود إلى صوته الأصلي)

 هـو: أخذت المخلوقات تتململ، ثم ضجت بسياط غضبها، طالبة مني عدم  البقاء صامتاً. فوجدت فمي ينفتح بلا إرادة مني، لأصرخ بالمحاضر ساخراً مما يقول...

  (يتخيل أن المحاضر يسمعه فيصرخ به)

 أيها الرجل المعبأ ببالون من الكلمات الجوفاء، إنك تفقأ عين الوعي بسياط همهمتك الضاجة  وتتفوه بالذي لا أساس له من اليقين في نفسك.

  غادر هذا المكان الذي دنسته حمقاتك المهذارة.

 (يعود إلى هيئته)

  الأمر الذي جعل القاعة تضج بالضحك، ليندفع المحاضر المسكين إلى  جمع أوراقه كبائع تلاحقه الرقابة الصحية، ثم يغادر القاعة وهو يتلفت مذعوراً.

  (صمت) مرة أخرى كنت فيها مدعواً إلى حفلة (باندهاش) أرعبني ما فيها من بذخ.

  (يصمت) حقيقة كان رفضي لما أراه بهيئة أضعف الإيمان:

  الصمت. وذلك لم يعجب المخلوقات طبعاً، فهزتني، صارخة مستخدمة لساني الذي كادت أسناني أن تقضمه.

  صرخت بالمدعوين:

  أيها الجالسون على سرر من لا إنسانيتهم،  يا من امتلأت بطونكم وخلت قلوبكم من حقيقتها،  فاعتلى الحيوان فيكم على صورتكم البشرية!  أتدرون كم من الأفواه التي يحييها فتات ما يتساقط من موائدكم؟!

  أفواه ستنظر بعيون أكثر اتساعاً منها لو أتيح لها أن ترى بذخكم وشراهتكم.

 (يعود إلى هيئته الأولى)

 شتمت المدعوين وأحدثت ضجة أسكتت المغنين والعازفين.

 كنت أصرخ (مستدركاً) لا... بل كانت المخلوقات الغاضبة هي التي تفعل ذلك، وهو ما جعل رؤوساً كثيرة للمدعوين تتدلى خجلة كثمار متعفنة.

  (بلهجة ساخرة) انتهى الأمر بإخراجي من الحفلة مسحوباً من قدمي  ومرمياً إلى الشارع مثل كيس زبالة.

  تكررت الحوادث والمشكلات.

  صار وجودي محض فعل تمليه عليّ تلك المخلوقات اللعينة.

  (مستدركاً باعتذار) لا … هي ليست لعينة، إنها طيبة ووديعة. نعم، طيبة.

  وهي فوق ذلك مثقفة، وتمتلك رصانة فيلسوف، وقلب متصوف.

  وهي هادئة متعقلة، شرط عدم وقوع شيء يثير غضبها، وهو ما لم أكن قادراً على توفيره في كل ما حولي من بشر وسلوكيات وقوانين.

  (بانكسار) لقد انتهى بي الأمر إلى التوزع المؤلم بين واقع ضحل، عليّ أن أعايشه بشروطه وقيمه، والمثال الذي تريده تلك المخلوقات.

  ومن هنا بدأت مشاكلي وهمومي وخيباتي، بدءاً مع الحبيبة التي اختارتها نفسي… حبيبتي!

 (يأتي صوت الحبيبة من خلف الكواليس)

 الحبيبة: اسمع، أنا زعلانة منك ولن أتكلم معك.

 هـو: لماذا؟

 الحبيبة (باستنكار): لماذا؟! لقد تأكدت أنك لا تحبني.

 هـو: وكيف تأكدت؟!

 الحبيبة: وهل أحتاج دليلاً أكثر من أنك لم تقل لي ولو مرة واحدة، مرة واحدة!

  إنك تحبني.

 هـو: وهل تشكين في أني أحبك؟!

 الحبيبة: أو تحبني حقاً؟! (تقولها بسخرية) قلها إذن!

 هـو: الحب لا يعبر عنه بالكلمات.

 الحبيبة (بغضب ونفاد صبر): وبماذا يعبر عنه إذن؟!

  هـو: بالقلب الذي يمتلئ بطمأنينته. بالعيون التي تتلو صلواته بصمت مقدس.

 الحبيبة: ولكني أحب أن أسمعها منك.

 هـو: لقد قلتها آلاف المرات.

 الحبيبة: متى؟ أين؟ كيف؟

 هـو: لم تسمعيها إذن؟

 الحبيبة: أريد سماعها الآن.

 هـو: إن لم تشعري بها فلن تدركيها أبداً.

 الحبيبة: عدت لتحيرني!

 هـو (بتعجب): أنا؟!

 الحبيبة (بنفاد صبر): أنا لا أفهمك، لا أفهمك!

 هـو (بسخرية ومرارة): حبيبتي ولا تفهمينني! تلك هي العلة يا نفسي.

 الحبيبة (بتوسل): ولكنني أريد أن أفهمك… ساعدني!

 هـو: إن لم تنهض بك يد مشاعرك لن تجدي يداً تمتد إليك.

 الحبيبة: يا لحيرتي! يا لشقائي بهذا الحب!

 هـو (باستغراب): تجمعين الحب والشقاء  وهما مثل خطين متوازيين لا يلتقيان  إلا في الوجود الساذج للمشاعر!

 الحبيبة (تصرخ): رأسي، رأسي ينفطر. اسمع، إني أمنحك آخر فرصة لتكون واضحاً معي، وتعاملني كما يعامل المحبون حبيباتهم.

 هـو: كيف يعامل المحبون حبيباتهم؟

 الحبيبة: بالكلمات المعسولة، باللمسات الطرية بالهمسات،

  بالصمت الرهيب...

 هـو (بمرارة): ولكن كيف يخرج الكلام المعسول من فم يمضغ مرارته؟!

  كيف تكون اللمسات طرية من يد مشلولة؟!

  كيف تأتي الهمسات من لسان مقطوع؟!

  من أين يأتي الصمت والعذابات تجلد أجساد البشر من حولنا؟!

  الحبيبة (بضجر): أوه! ها أنت تعود إلى نوبات جنونك!

  نعم أنت مجنون… ولا مكان لي قربك.

  أنت مجنون… مجنون...

  هـو (بيأس): مجنون؟! ليتني كنت كذلك! (بيأس) ولكنها المخلوقات الغريبة. المخلوقات هي التي تكلمت.

  (يعود ليتذكر) ربما كانت هذه مشكلة أهون مما تلاها من مشكلات،  كالذي حصل يوم استُدعيت إلى التحقيق في دائرة الأمن.

 (يتقمص شخصية محقق، ويتكلم بصوته، ويجيب بصوته الأصلي حين يرد على أسئلته).

 المحقق: اسمع يا هذا! لقد أرسلنا في طلبك، وهذا يحصل للمرة الثالثة، وستكون الأخيرة. عليك أن ترتدع... وإلا فسترى (مستدركاً) هذا إذا أمكنك أن ترى شيئاً بعد لقائنا هذا.

 هـو: ولكن لماذا؟ ماذا فعلت؟

 المحقق (بسخرية): ماذا فعلت؟!

 وماذا تريد أن تفعل أكثر مما فعلت؟!

  أنت تحرض الناس، وتسخر من القوانين، وتتخطى الحدود

  المسموح لك بأن تتكلم فيها.

 هـو: ولكني لم أتحدث إلا فيما يخدم المجتمع؟!

 المحقق: أنت لا تستطيع أن تحدد مصلحة المجتمع، نحن من يقوم بذلك.

 هـو: ولكني لم أفعل شيئاً مخالفاً لـ…

 المحقق (مقاطعاً): أنت تتحدى وتكتب بما يقلق ويزعج، ويتقاطع مع الهدوء

 والبساطة التي ننشرها بين الناس.

 هـو: تقصد السذاجة والسطحية؟

 المحقق (مهدداً): لا تسخر منا. نحن نريد أن يعيش الناس مرتاحين، وتأتي أنت وأمثالك فتفسدون عقولهم، وخاصة الشباب منهم.

 هـو (بسخرية): التهمة ذاتها التي قُذفت في وجه سقراط؟!

 المحقق (منتفضاً): سقراط؟! أهذا واحد من جماعتك؟ ها!

  سآمر بإلقاء القبض عليه هو الآخر.

 هـو (ضاحكاً): ولكن يا سيدي، بينك وبين سقراط أكثر من ألف سنة؟

 المحقق (ببلادة): ها.. نعم، نعم. لنعد إلى قضيتك أنت!

 هـو: إني أخاطب عقول الناس التي يراد لها أن تظل مخدرة.

 المحقق (بغضب): ومن قال لك إن الناس يريدون عقولهم؟!

  إنهم مرتاحون بدونها. وهم لذلك بسطاء طيبون.

  هو (بحدة): ولكنهم ليسوا سذجاً.

 المحقق (بنفاد صبر): اسمع... وهذا أمر!

  أمامك آخر فرصة لتفكر وتقلع عما أنت سادر فيه.

 (بتودد) لقد قرأت بعض ما ينشر لك، وظهر لي أنك صاحب رأس كبير (مستدركا باعتذار) أقصد عقل كبير.

  صحيح إني لم أفهم كثيراًً مما تكتبه، ولكني أعرف ذلك وأدركه.

  ثم قل لي بربك، ماذا تقبض من هذا الضجيج الذي تصدع به رأسك ورؤوسنا؟ ها! ماذا تقبض غير وجع الرأس؟

  يا أخي هناك أمور ثقافية كثيرة مهمة يمكنك أن تكتب فيها، فتنتفع، وتنفع،

  ويقرؤها الناس وهم فرحون... منشرحون... منبطحون.

 هـو (يتجاهل): مثل ماذا؟

 المحقق (بعد تفكير): مثل كتب الكلمات المتقاطعة، كتب الألغاز، كتب  الأغاني، القصص البوليسية.

  (مستدركاً) وإذا كنت غاوياً للتعب ووجع الرأس فلا مانع لدينا… لا مانع من أن تكتب عن حياة الفنانات  والفنانين المشهورين، فهي كتب مقروءة، وتجلب لك الثروة.

  (يعود إلى هيئته وصوته الأصلي)

 هـو: طيلة ذلك الوقت كانت المخلوقات التي تحتل رأسي تصرخ بضجة أطفال جياع، وتضرب أعماق رأسي بحوافر جياد نافرة.

  ولكنني كنت أبتسم أمام المحقق كالأبله، خوفاً من الغضب الذي  يعصف في أفناء رأسي، والغضب الذي كنت أجلس أمامه.

  (صمت) واليوم، بعد كل تلك المشكلات، ها إني أواجه أخطرها.

  لقد صحوت لأجد أن جسدي قد انفصل عني وغادرني وحيداً، تاركاً لي ورقة صغيرة.

  (يذهب إلى المكتبة ويخرجها) مكتوب فيها:  (يقرأ بألم) لقد مللت من حملك. ليس من العدالة أن تثير أنت أيها الرأس المشكلات وأتلقى أنا الضربات.

  أتركك وشأنك... وداعاً.

  (يختفي الجسد ويبقى الضوء مسلطاً على الرأس فقط. تنتابه موجة من الضحك الهستيري، تتحول بعد فترة إلى بكاء، وتنتهي بتشنجات متقطعة، ثم صمت، بعده يخاطب الرأس نفسه)

 الرأس: هكذا إذن! لقد ذهب الجسد وبقيت وحيداً كبعير أجرب. أيها الرأس الأخرق وعليك إدراك يقين الانقطاع عما حولك الذي أنت فيه،  ستعيش هكذا كمَّاً مهملاً يشتري مأساة عزلته.

  (صمت. ينتفض) لا، لا بد لك أن تكسر أبواب الصبر، وتغادر بئر تحملك. اتخذ قراراً لا رجعة عنه.

 (بإصرار) تخلص من هذه المخلوقات مهما كان الثمن. نعم، تخلص منها.

 (بمودة) أعرف أنك صرت تنتمي إلى عالمها أكثر من أي انتماء آخر.

  صرت تحتاجها، تحتاج قوة ملاحظتها، صراحتها، حضورها الذهني  الثاقب، وضميرها اليقظ.

  ولكن لا أحد يرتضيك وأنت منشدّ إلى تلك المخلوقات، ناطق بصدق ما تدعو هي إليه. الكل صار ينفر منك. تركك الأصدقاء... الأهل...

  الحبيبة، (بيأس) ثم الجسد.

  (يغير لهجة خطابه، فيبدأ باستخدام ضمير المتكلم)  ماذا عليّ أن أفعل غير أن أتخلص منها؟

  (بإصرار) وسأفعل ذلك الآن... الآن حتماً.

  (متردداً) ولكن كيف؟ كيف يمكن لي ذلك وقد انتميت إلى روعة ما في هذه المخلوقات؟

  (بإصرار) لا تتردد! لا مجال لعين الإصرار أن تتلفت حولها، ولا لصوتك أن ترتبك كلماته، فتتدافع خائفة... تخلص منها.

  (متردداً ومتكلماً بضمير المتكلم) بأية وسيلة يمكنني أن أتخلص من هذه المخلوقات؟

  (يفكر بصوت خفيض) إنها مخلوقات عقل، بل عقول كبيرة، عقول رجّت الوجود الإنساني وأقلقت أزمنته.

  (يلتفت بعينيه نحو واحدة يوحي بأنها هناك)

 ها هي واحدة تتكلم بفلسفة أفلاطون.

  (يلتفت إلى جهة أخرى)

  وهذه واحدة تحفظ شعر المتنبي، وتتغنى به:  (يقرأ شعراً للمتنبي)

  لا افتخار إلا لمن لا يضـــــــام        مـدرك أو محارب لا ينام

 واحتمال الأذى ورؤية جانيه             غذاء تذوي بـه الأجســـام

 من يهن يسهل الهوان عليـــه          مــــــا لجـــرح بميـت إيــــلام

 (يلتفت نحو ثالثة) وهذه تحفظ مسرحيات شكسبير:  

Whats is man, if his chief good and market of his time be but to sleep and feed? Abeas, no more.

 Sure, he that made us whath such rge discourse, Looking before and after, gave us not that capability and godlike reason to fust in us unused.

 

  (يلتفت نحو أخرى) وهذه واحدة تحفظ شعر السياب وتردده: (يقرأ)

 سحائب مرعدات مبرقات دون أمطار/ قضينا العام، بعد العام، بعد العام، نرعاها/  وريح تشبه الإعصار، لا مرت كإعصار/ ولا هدأت. ننام ونستفيق ونحن نخشاها/ فيا أربابنا المتطلعين بغير ما رحمة/ عيونكم الحجار نحسها تنداح في العتمة/ تدور كأنهن رحى بطيئات تلوك جفوننا،  حتى ألفناها".

  وتلك ما كتبه المعري، وأخرى ما كتبه ابن رشد، وأخرى تتحدث بفلسفة هيجل، وأخرى تحفظ شعر دانتي، وهذه أخرى تحفظ ما كتبه طه حسين، وهذه… وهذه... وهذه...

 (بحسرة) كل هذه المخلوقات الرائعة عليّ أن أتخلص منها ليرضى عني الآخرون ويقبلوني بينهم.

  (متنبهاً) والآن... ما الوسيلة؟ عليَّ أن أجدها سريعاً؟

  (بعد تفكير) ولمَ لا؟ لأجرب الخمرة،  يقال إنها تذهب بالعقل. فلتذهب به مع هذه المخلوقات إذن،  أوافق على ذهابهما معاً.

 (يسكب لنفسه الخمرة. يشرب كأساً، وأخرى. يبدأ بالغناء)

  سأتخلص من هذه المخلوقات، وسيكون أول ما أقوم به بعد ذلك أن أذهب للبحث عن جسدي، ربما أجده في مكان ما.

  (بعد تفكير) في شعب المفقودات... أو في دوائر الشرطة.

  لقد سمعت أنهم يحفظون هناك الأشياء التي لا يظهر من يطالب بها.

  سأدخل إلى غرفة المفقودات، وأسأل عن جسدي.

  (يتخيل أنه يُجري حواراً مع شرطي، يقوم هو بتقليد صوته)

 هـو: أيها الشرطي، لو سمحت!

 الشرطي: ماذا هناك؟

 هـو: لقد جئت أبحث في مفقوداتكم... عن جسدي.

 الشرطي (بلا مبالاة): في تلك القاعة التي أمامك كثير من الأجساد التي لم يطالب بها أحد، اذهب وابحث عن جسدك بينها.

  (يتخيل أنه يدخل قاعة الأجساد. يمسك أحدها ويقيسه)

 هـو: لا، هذا ليس جسدي، إنه تقدمي الصدر، رجعي المؤخرة، وأنا لست كذلك.

  (يمسك آخر) لا، هذا جسد امرأة.

  (يمسك آخر ويقيسه) لا، هذا جسد عملاق.

  (يمسك آخر) وهذا جسد قزم.

  (بمرارة) أين جسدي إذن؟

  (يصرخ) جسدي! يا جسدي.

  (يصحو من حلمه) يا له من حلم سكران أجوف!

  (يسكب كأساً أخرى)

  ها إن العقل يأخذ بالمغيب، وتستيقظ للوهم عوالم متداخلة،

  دنيا مرتبكة الأشياء... لا ملامح لها.

  الصورة تندمج في الصورة الأخرى.

  الأرجل تصعد إلى الرأس، والعين تسقط في موضع القدمين.

  الأنف يتسلل إلى ما تحت الحزام.

  الباب يتسلق إلى السقف.

  الغرف تفتح حيطانها على فضاء يبصق وجوهاً لا ملامح لها.

  ها هي تركض، تتعثر، تسقط، تزحف، يدوس بعضها بعضاً...

  ها هي تصرخ، تصرخ...

  (يسقط. موسيقى. يفتح عينيه. يبقى مستلقياً لفترة صمت.

 (يصيخ السمع) يا له من هدوء أبيض! يبدو أن الديدان قد قضي عليها تماماً،  فأنا لا أجد في دواخلي الآن غير ضباب طري وليس عندي من الرغبات سوى أن أسمع بعض الطرائف.

  (يحاول أن يتذكر نكتة)

  مرة طلب من مسطول أن يرسم فيلاً، فرسم نقطة، وقال: هذا فيل،  ولكنه بـ عـ يـ... د

 (يضحك طويلاً، ثم يصمت. يسمع طنين المخلوقات الذي يأخذ بالارتفاع. يضرب رأسه)

  لم تمت، ولم تذهب من رأسي، إنها باقية، إنها تحرقني الآن بنار غضبها.  حسناً، اهدئي، اهدئي... لقد صحوت تماماً.

 (بعد قليل من التأمل) عليّ أن أجد وسيلة أخرى.

  (يلوح بقنينة المبيد الحشري) ربما ينفع هذا!

 (يضغطه في أذنيه وينتظر النتيجة)  عندما كنا صغاراً  كانت تمر بشوارع مدينتنا سيارة تقذف دخاناً أبيض.

  كان يقال لنا إنها تقضي على الحشرات.

  كنا نضع رؤوسنا في غيم الدخان المنطلق من تلك السيارة كي نتخلص من القمل الذي يتوج رؤوسنا.

  (يصمت. يبدأ الطنين بالظهور ثانية، وعلى نحو أقوى) لا فائدة… لا فائدة.

  يبدو أن الديدان تتعود على شم المبيد، فلا يؤثر فيها، تماماً كما كان البعوض والقمل والحشرات الأخرى  تزداد في شوارعنا بعد كل رشة تقوم بها تلك السيارات.

  لا فائدة… لا جدوى... ماذا عليَّ أن أفعل؟

  أية وسيلة أخرى يمكن أن ألجأ إليها؟

  أريد أن أعيش كما تعيش هذه الحشود من البشر في معسكرات الأكل والشرب وتبادل الشتائم والتمتع بلذاتها وإشباع غرائزها في هذه المدن المزدحمة بالناس المنشغلين بما هو أسفل من أحزمتهم.

  لقد تعبت… تعبت وأريد أن أرتاح.

  (يصمت. يتأمل. ينظر إلى السقف، إلى الأفق البعيد. ويبتسم)

 يا لها من فكرة!

  كيف كانت غائبة عن بالي… الماء… نعم، الماء، الماء كفيل بالقضاء على تلك المخلوقات، أو إبعادها عني في الأقل.

  الموت في الماء موت نظيف ومغسول.

  أغوص في الماء فتمتص سوراته هذه المخلوقات... ولن يتاح لها أن تطير وهي تحت الماء... وهكذا أتخلص منها.

  (بفرح غامر) ياه! يا للفكرة الرائعة!

  (يغادر المسرح. يبدو مؤثر صوت مياه ورأس يغوص في الماء.

  الموسيقى ترتفع من المذياع. ثم صمت، يأتي بعده صوت المذيع)

 المذيع: أيها الأخوة المستمعون، وصلنا تواً البلاغ الآتي:

  صرح ناطق مسؤول أن نوعاً من المخلوقات غريبة الشكل قد تسربت إلى مياهنا الإقليمية. ولخطورة ما يمكن أن تسببه هذه المخلوقات ندعو المواطنين الكرام إلى عدم شرب مياه الأنهار.

  والآبار والعيون، إلى حين أن يتسنى للأجهزة المختصة القضاء على هذا الخطر الداهم. نأمل من جميع المواطنين التعاون معنا خدمة للصالح العام.

  (موسيقى. مارشات عسكرية. صمت. يعود صوت المذيع)

  المذيع : أيها الاخوة المستمعون، وصلنا تواً البلاغ الثاني، وهذا نصه:إلحاقاً ببلاغنا السابق، فقد حدثمع شديد الأسف أن أعداداً من المواطنين لم تسمع نداءنا، أو سمعته ولم تلتزم بمضمونه، فشربت من ماء النهر، الأمر الذي جعلهم وسطاً ناقلاً لأفعال تلك المخلوقات الخطيرة التي غزت مياهنا. ولكي يتم حصر هذه الأعداد من المرضى نرجو من الجميع التعاون مع الأجهزة المختصة بإخبارها عن الحالات التي يتم رصدها، وعن أماكن وجودهم. ويمكن معرفة هؤلاء المرضى من خلال مواصفات دقيقة حددتها الجهات الصحية، وتتمثل بحركة العيون غير المستقرة، وبالطنين الذي يملأ رؤوسهم، وبضجة أصواتهم، وهم يتحدثون بما يتنافى والقوانين المرعية.

 إننا في الوقت الذي نحذر فيه المواطنين من خطورة الاقتراب من هذه الفئةالتي أصابها الوباء الغريب، ننتظرالتعاون المخلص من الجميع،خدمة للصالح العام.

  (موسيقى عسكرية)

 (ستار)

  

 الهـــوامـــــــش:

 * النص من مسرحية "هاملت" لشكسبير، وترجمته:

 "ما الإنسان، إن كان أفضل ما لديه وخير ما يشغله النوم والأكل؟ هو حيوان لا غير.   بيد أن الذي خلقنا، وجعل فينا نفساً كبيرة كهذه، ترسل البصر إلى الأمام وإلى الوراء، لم يهبنا هذا المقدرة، هذا العقل الجدير بالآلهة، ليتعفن فينا مهملاً".